المقالات

الخبصة الاستراتيجية

لدغة ودغدغة
سألني أحد الأصدقاء عن معنى مصطلح تخبيص الذي نستخدمه كثيرًا في أحاديثنا؟ وعندما حاولت أن أشرح له المعنى اللغوي للمصطلح، وجدت أن ما يحدث اليوم في بعض المؤسسات هو أفضل شرح عملي يمكن أن تقدمه إدارة تلك المؤسسات عن التخبيص الإداري والتخبيص الاستراتيجي! فمن الطبيعي أن يصبح فشل الخطة الاستراتيجية أمرًا واقعيًا في أي منظمة – حكومية كانت أو خاصة -؛ ذلك أن كثيرًا من المديرين وعلى الرغم من تمتعهم بالدرجات العلمية المطلوبة -هذا إذا كانوا بالفعل حصلوا على درجات علمية حقيقية وغير وهمية- إلا أن تجاربهم العملية وخبراتهم السابقة حتى في مرحلة ما قبل وصولهم إلى قمة هرم تلك المؤسسات؛ جميعها لا تشفع لهم، بل لا تؤهلهم لمجرد تفسير أو شرح الخطة الاستراتيجية لمرؤوسيهم ناهيك أن يكونوا أهلًا لوضع تلك الخطط بأنفسهم، ومن المؤكد أن المدير إذا فشل لا يفشل بمفرده، وإنما يفشل ويتسبب في فشل من معه وممن هم حوله أيضًا؛ وبالتالي تفشل المؤسسة بكافة مكوناتها ومقوماتها؛ إذ إن مهمة هذا المدير تتجلى في حشد موارد المؤسسة البشرية والمالية والمادية لوضع وتحقيق الأهداف الاستراتيجية للمؤسسة.

وموضوع الفشل في الخطط الاستراتيجية ليس بالموضوع الجديد أو الغريب، بل ونظرًا لوجود نسبة غير قليلة من المديرين الفاشلين في تبني الخطط الاستراتيجية؛ فقد ظهر تيار مناهض للتخطيط طويل المدى (الاستراتيجي)، ومن بين رموز ذلك التيار؛ جيسون فرايد وديفيد هاينميير هانسون مؤلفا كتاب إعادة العمل (Rework)، وكذلك الخبير الاقتصادي كارل شرام الذي يرفض التخطيط القائم على التنظير المجرد المنفصل تمامًا عن الواقع؛ حيث يرى أن أفضل طريقة للتعلم هي العمل والممارسة الواقعية فهي التي يتعلم من خلالها القائد ما يجب عليه فعله ومالا يجب عليه فعله. ثم عاد صديقي ليسألني: طالما أن المدير ليس أهلًا لإعداد خطة استراتيجية؛ فلماذا يقوم بهذه المهمة بالغة الأهمية والخطورة بمفرده؟ لماذا لا يلجأ لأصحاب الخبرة من داخل المؤسسة أو حتى من خارجها؟ وبخاصة أن هذه الخطة يتم إعدادها لتغطي فترة زمنية ليست بالقصيرة بل ربما تصل إلى عشر سنوات أو تزيد عن ذلك؟

قلت لصديقي: بل إن الفترة الزمنية الطويلة للخطة الاستراتيجية؛ ربما تكون هي السبب الذي يدفع كثير من الأشخاص غير المؤهلين إلى الجرأة والتهور وإعداد الخطة بأنفسهم، وهم بذلك يذكرونني بقصة (موت يا حمار)، فقال صديقي: ودي أقول لك أترك الحمير في حالها!! لكنك شوقتني لسماع هذه القصة والتعرف على علاقتها بخطة المدير الاستراتيجية؟
فقلت له: “موت يا حمار” هو مثل شعبي يردده الإخوة المصريون كثيرًا؛ وذلك تعبيرًا عن طول البال والتأخر في تنفيذ بعض الأعمال، فكلما جاء شخص يتوعد أو يوعد بتنفيذ عمل ما؛ مع أن الآخرين يدركون جيدًا أنه لن يفي بوعده ولا يستطيع أن ينفذ ذلك العمل، كما هو الحال مع مدير الخبصة الاستراتيجية؛ فحينها يطلقون مقولة “موت يا حمار”. ووفقًا للروايات فإن قصة هذا المثل تعود إلى أن أحد الحكام قديمًا رأى حمارًا يدخل إلى بستانه، ويعيث فيه فسادًا، فأمر الحاكم بإحضاره وقتله، فحاول أحد حاشيته إقناعه بأنه حمار وهو حيوان مسكين لا يفهم، ولا يجوز قتله لفعله هذا الأمر، لكن الحاكم أصر على موقفه لكي ينال الحمار جزاءه ولكي يتعظ غيره بأن الموت سوف يكون جزاء كل من يقدم على مثل فعلته. وللخروج من هذا الموقف، تقدم رجل وعرض على الحاكم خطة بأنه سيقوم بتعليم الحمار قواعد الإتيكيت وفن التعامل مع ممتلكات الغير؛ ولكن بشرط أن يمنحه الحاكم مدة عشر سنوات وقصرًا يعيش فيه ليتمكن من تعليم الحمار، وافق الحاكم على هذا العرض، ولكنه هدد بقطع رقبة الرجل إذا فشل في تنفيذ هذه المهمة. خرج الرجل مسرعًا ليخبر زوجته بما حدث، فسألته عما سيفعل به الحاكم؛ لأنه بالطبع سيفشل في تنفيذ مهمته والوفاء بوعده؛ فهي متأكدة أن الحمار لن يتعلم حتى لو كانت المدة مائة سنة وليست عشر سنوات. فرد عليها قائلًا: أيتها الجاهلة بعد عشر سنين إما أن يموت الحاكم أو أموت أنا أو يموت الحمار، “وموت يا حمار”، ومن هذا الموقف تم تداول هذا المثل وتوارثته الأجيال جيلًا بعد جيل. وأعتقد أن مدير التخبيص الاستراتيجي ممن تبنوا هذا المثل وجعلوه شعارًا لهم. فقال صديقي الآن فهمت معنى مصطلح خبطة استراتيجية، قلت له تقصد خبصة استراتيجية. فقال صديقي: كل الاحتمالات واردة؛ إما أن يكون الموضوع خبصة إدارية تشير إلى جهل وفشل الإدارة، وإما يكون الموضوع خبطة عمر، وهذا يعني دهاء وفساد الإدارة، وفي كلتا الحالتين الموضوع بعيد كل البُعد عن مصطلح خطة استراتيجية!!
قلت له اطمئن يا صديقي.. لن يكون لهذه الفئة وجود في ظل رؤية 2030؛ وبجهود عراب الرؤية ولي العهد -وفقه الله- وبدعم ومتابعة خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- سوف يكون مستقبل القيادة الإدارية في مؤسساتنا مشرقًا بمشيئة الله تعالى.
إضاءة:
المنهجية العلمية في الخطة الاستراتيجية مهمة، والنظريات الإدارية أساسها، ولكن شريطة أن يكون لها تطبيق عملي على أرض الواقع، وإلا فإنها تبقى مجرد هياط وبهرجة إعلامية لتسويق الذات.
—————————
• عضو هيئة التدريب بمعهد الإدارة العامة.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button