المقالات

لا بأس أكتب برداءة

تخيّل عندك لقاء تلفزيوني -بغض النظر عمَّا ستتحدث عنه في هذا اللقاء- مع أم بي سي، أو إس بي سي، كم عدد المرات التي ستراجع فيها ما تريد أن تقوله؟
أراهنك أن جوابك -مهما كنت ضليعًا بما ستقدم- لن يكون مرةً واحدة أو مرتين حتى.
بل البعض منّا، يراجع أبسط حواراته الاعتيادية عشرات المرات في عقله، مثل طلب إجازة مثلًا بدل أن يقول بكل بساطة: “أحتاج آخذ إجازة لمدة أسبوع”، أو تجد البعض يراجعون كلمات أبسط بكثير مثل “ممكن تناولني المنديل اللي وراك؟”
هل سبق وفكّرت لماذا نفعل ذلك؟
السبب بسيط: لا أحد يريد أن يقول شيئًا لم يعنِ أن يقوله أو بصيغة أبسط -وبأسلوب أقل جاذبية- كلنا نريد التأكد من أننا نقول ما يترجم نيتنا بوضوح لا يترك مجالًا للشك عند المتلقي.
فعندما تقول لأحد “ممكن تناولني المنديل؟” لا تريد أن يسمعها المتلقي كأمر -إن لم يكن فعلًا أمر- أو حتى أن يستنبط منها نبرة متسلطة لم نريدها أن تكون كذلك.

إذن، ما دخل الكتابة؟

القصة بالنسبة للكاتب هي مثل التجهيز للظهور في لقاء تلفزيوني، أو طلب إجازة من رئيسك في العمل، إلا أن الكاتب لا يستطيع الإعداد -مهما حاول- لما يريد قوله قبل أن يبدأ بكتابته فعليًا، فحتى تبدأ برسم الخطوط العريضة لقصتك كل شيء سيبقى مجرد تنظير.
في رأس الكاتب فكرة يريد تحويلها لقصة، ولكن عليه تجربة تحويل هذه الفكرة المجردة السابحة في أعماق عقله إلى شخصيات، وحوارات، وأحداث، حتى يستطيع استيعابها ورؤيتها على “ورق” الواقع، وهنا يأتي دور المسودات.
يُقال: “المسودة الأولى هي إخبار القارئ لنفسه بالقصة”. كاتب هذه الأسطر يتفق تمامًا.

يشتكي العديد من “قفلة الكاتب”، تلك المرحلة التي تشعر عندما تهاجمك أن جميع الأفكار غادرت عقلك بلا رجعة تاركةً فقط أغبى، وأسوأ الأفكار التي يستحال أن تحاول أن تكتبها حتى.
ورغم أن إحساسك بأنك لن تكتب شيئًا جيدًا مهما حاولت هو إحساسٌ مشروع، ويحدث لنا جميعًا ككتاب، إلا أن فكرة أنك لا تستطيع الكتابة اليوم مهما حاولت بسبب عقدة غامضة لن تنفك حتى ينقضي هذا اليوم المشؤوم ما هي إلا “دراما كُتّاب”.
أعتقد أنك الآن استنتجت العلاقة بين المسودة، وقفلة الكاتب، والكتابة برداءة. إن لم تستنتج فلا بأس؛ سأشرح أكثر.

لا بأس، أكتب برداءة

النص -أي نص، حتى هذا الذي تقرأه- عنده ترف أن يُكتَب برداءة في المرة الأولى إذا اعتبرناه فيها مجرد مسودة ترينا -نحن الكُتّاب- شكل القصة الواقعي الفيزيائي بعد أن كان مجرد فكرة تجريدية خيالية في عقولنا.
فعندما تكتب للمرة الأولى يجدر بك ألا تفكّر بجودة ما كتبت، أو نقله لنيتك من عدمه، فحتمية رداءة مسودتك الأولى هي نفس حتمية رداءة نصٍ كتبته، وأنت معصوب العينين.
لذا، لا بأس أن تكتب برداءة طالما أنك ستكتب مسودةً، واثنتين، وثلاثة وستعود كل مرة لما كتبت وتطورّه وتعدله وتراه ينمو ويكتمل، ويصبح أقرب لترجمة صحيحة لما في عقلك وأشبه لما تصورته أن يكون، أو على الأقل، عندما تخبر القارئ أنك تريد منديلًا يقرأها بالصيغة التي أردت.

محمد عبدالرحمن الأحمدي

كاتب إبداعي - قاص - روائي - مؤسس منصة سرد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى