نصُّ القصيدة:-
لم يرسلوا أبداً لهُ عُنوانا
لكنَّه ماضاع فاز رِهَانا !
أصغى لروح الريحِ وهي تدلُّهُ
ومشى على شغفٍ وذابَ بيانا
عبثتْ به الأيامُ وهي تهزُّهُ
فتساقطَ الثمرُ البهيُّ جُمانا
يتناقل السُمَّارُ من أخبارهِ
نُتَفاً وأكثرُها انطوى كِتمَانا
ياوجهَهُ القمريَّ مامن غابةٍ
إلّا اشتهتكَ تمرُّ لو عَجْلانا !
لكنَّه مامرَّ ثمَّتَ قِبِْلةٌ
قد أمَّها مُتسربلاً أكْفانا !
يدري بأنَّ الموتَ يأتي مرَّةً
وعليه أنْ يسعى لهُ أحيانا !
—————-
-وقفة مع العنوان ودلالاته:-
خصَّ الشاعر قصيدته هنا بعنوان “رحيل”؛ معتمداً صيغة التنكير ؛ويلاحظ أن اللفظة هنا غير مرتبطة بسياقٍ تعبيريّ معيّن مقترنٍ بها مباشرة؛لكنَّ سياقات النص ستعود إليها بالتأكيد ؛وسيستقي من نهرها صوره وأخيلته.
ونظرة طائر إلى المعجم لمحاولة تسليط الضوء عليها؛ يتبن لنا مايلي:-
هي مصدر للفعل “رحل”؛أي سافر؛
أو انتقل من مكان لآخر ؛للنزهة؛ أوغير ذلك من الدواعي المتعلقة بالحياة؛وشؤونها المختلفة..
وغالباً مايقترن الرحيل في التصوّر العام بوداع الأحباء؛ والخُلطاء؛والأصفياء كقول شاعر قديم:
وَإنّ رَحِيلاً وَاحِداً حَالَ بَيْنَنَا
وَفي المَوْتِ مِنْ بَعدِ الرّحيلِ رَحيلُ!
كما أنَّ له دلالات أخرى ؛ تتجاوز النطاق الحسّي إلى المعنوي ؛كما في قول الشاعر صردر:
لم أبكِ أن رحلَ الشبابُ
وإنما
أبكي لأنْ يتقاربَ الميعادُ!
وطالما كان وقع الرحيل أليماً على النفس الإنسانية؛خاصّة عندما يمتزج بالوداع الأبدي؛كقول أحدهم :
فَجُدْ لي بقَلْبٍ إنْ رَحَلْتَ فإنّني
مُخَلِّفُ قَلبي عِندَ من فَضْلُه عندِي!
ونظرة أخرى فاحصةٌ للعنوان المصدري المجرّد المطلق من القيود؛المُنكَّر من حيث الصيغة كما ذكرتُ آنفاً ؛تفضي بنا إلى أننا أمام “رحيل” ؛له ظلاله الإيحائية؛وله قيمته عند الشاعر ؛رحيل له ذكراه المؤثرة؛ تسري في حروفه الأربعة نوازع الشاعر النفسية؛ وتتآزر في رسم إطاره ؛رؤية الشاعر مفتوحةً على كلِّ النوافذ.
وبما إنه “رحيل “؛مطلق ؛فإنَّ الغالب أن تذهب التصورات بنا إلى مسميَّات متقاربة؛لاستجلاء المعنى الكامن ؛كأن نقول”موجع “؛أو ” أليم ” ؛أو “جائر ” ؛أو “مكره” ؛أو ماشابه ذلك ؛حتى إذا اتجهت النظرات لاستقصاء النصِّ الشعري ذاته ؛تبين لنا ؛أننا أمام “قصة رحيل”؛وقف الشاعر إزاءها ؛موقف “الراوي” لوقائع رحلة بطل النص الذي يُمثِّل الشاعر على الأغلب؛راصداً لقطاتٍ إيضاحية؛أومشاهدات متصلة بالحدث نفسه؛لها ظلال متعددة الألوان؛من شأنها أن تكشف لنا الأسرار المتوارية؛خلف الكلمة المطلقة(رحيل)؛وهذا ما ستحاول السطور التالية تتبعه ؛وإماطة اللثام عن تفاصيله ماأمكن ذلك..
*******
*جوُّ النصّ :
______
رحل بطلُ شاعرنا المشارإليه “بضمير هاء الغيبة”(له)” ؛رحيل النسيم الرقراق الهادىء إلى وجهة معينة؛بخل أصحابها عليه منذ اللحظةالأولى بالعنوان الإرشادي إن صح التعبير؛ على نحوٍ مُريب؛مما أثار استغراب الشاعر حول هذا التعتيم !
إزاء ذلك المنع المتعمَّد؛ بدت الاتجاهات جميعها للناظرعلى وجه العموم مستغلقة ؛مبهمة ؛بيد أنه -وهو العارف المتبصر؛ استطاع بالبوصلة الذهنية والروحية التي أودعها الله بين جنبيه ؛أن يتخطي الحواجز المصطنعة؛والمتاهات المُخيفة؛ والصعاب المحدقة به؛
بما في ذلك مخاوف الضياع المتربصة بمسيره؛وسرعان ماظفر بالمجد المرتقب المُضمر في قرارة نفسه ؛إذ (فاز رهانا) ..
وكان ذلك التحدي ؛مدعاةً إلى انفصال الشاعر عن ذلك المحيط المُعتم ؛ومن ثمَّ العودة إلى مسرح الذات؛وماستمليه عليه من انعكاسات نفسية ؛وما ستترسخ لديه من قناعات تصبُّ في خانة النتائج المُستخلصة ..
فهم إذن تنكروا له “كأنْ لم يكن بينه وبينهم هوى”؛في سالف الأيام.!
وحدها “الريح ” غير العقيم” ؛استرعت انتباهه؛ ووحدها من التفتت إليه ؛ وأعارته اهتمامها؛ومن ثمّ تمَّ له أن يأتلف معها قلباً وقالباً؛لتبدأ بعد ذلك سلسلة من الأحداث والمواقف.
أصغى لمكنون روحها ؛إصغاء حميماً لاافتعال فيه ؛؛وأسلس لها القياد في أن تضيء له المسالك؛والمهالك ؛والمجاهل الملتوية ؛فيما كان وجيبُ قلبه -بصحبتها- تعتريه الغبطة ؛والفرح ؛والانشراح ؛حتى الذوبان البياني الذي أومأ إليه في قوله:(ذاب بيانا)..
ولأنَّ السعادة المنشودة -وقعتْ أو لم تقعْ- ؛لاقرار لها؛ ولاثبات لصورها البرّاقة ؛كما أنَّ عمرها الزمني لاضمان لامتداده طويلاً على رقعة الخارطة الكونية ؛في هذا المناخ السائد ؛استطاعت الأيام الحُبلى بالمفاجآت؛
أن تتزيَّا له في ثوب العابث المستهتر ؛وربما الحانق المتسلّط ؛لكنها وعلى الرغم من بسالة أطماعها ؛لم تستطع النيل منه؛ولا الحيلولة دون هدفه المراد؛في دائرة التقلبات التي مارستها عليه؛يتّضح ذلك في قوله (وهي تهزُّه)؛لم تستطع أن تفتَّ في عضده؛
أو أن تقتلع البساط من تحت قدميه كما يقال؛وأنىَّ لها ذلك ؟!
بعد برهة من الزمان تجلّت للعيان مفارقةٌ تمخضت عن هزَّات الريح المتتابعة؛ فإذا الشاعر أمام “ثمر يانع”؛استحال (جُماناً)؛يسرُّ الناظرين بريقه ؛فهو يجري تحت عينيه جريَاً مختلفاً عمَّا كان يعنيه الشاعر البحتري في قوله:
جَرَى في نَحْرِها مِنْ مُقلَتَيها
جُمَانٌ يستَهِلُّ عَلى جمانِ!
وإنما هو جريٌ له خصوصيته عند الشاعر.
بعض تلك الأوصاف غير المتأتية؛
أو الأسطورية الخارقة ؛في سياق النزر اليسير المستمد من من وقائع رحلته ؛ ترامت إلى مجالس السمر التي يعقدها أصحابه؛ قرناؤه؛ وأحباؤه بمنأى عنه ؛بينما بقيت جملة أخباره؛كالأسرار طيَّ الكتمان ..
أذن الله له أثناء تلك الرحلة الفردية؛ وتحولاتها الفجائية؛أن يصطبغ وجهه بأضواء القمر الماخر فضاءات الكون؛ فاكتسب نصاعة ضوئه الفضيّ ؛وأشعته الحالمة؛ووقتذاك احتلَّ مساحات القلوب؛قلوب الكائنات النابضة بالحياة ؛فالغابةُ الملتفةُ على شجيراتها؛ وأعشابها المستغرقة في صمتها السرمدي ؛بادلته الحبَّ الكبير بلاثمن؛بل إنَّ كل غابة رأتْ فيه حياتها؛واستشعرت فيه خصوبتها ؛وأطرقتْ إليه مصغيةً تمام الإصغاء كما ألمحنا سابقاً ؛وبودها لو مرَّ -ولو مرور العابرين- ؛فيزيح عن كاهلها هذا الخوف الجاثم على صدرها ؛وهذه الكوابيس التي ترزح تحت نيْرها ليل نهار؛ وفي ذلك إيماءات مفادها أنَّ صوت الشاعر الحقيقي ؛سيبلغ الآفاق ؛وتصغي لقضاياه حتى الكائنات الخضراء؛غير الناطقة..
إنَّ جمالياتٍ هذه الطقوس الباهرة التي حظي باستقبالها ؛من شأنها أن تستولي على لبَّ الإنسان؛وعلى مساحات واسعة من اهتماماته؛بيد أنَّ الشعور الدقيق بضآلة نعيمها ؛وبريقها الخادع ؛سرعان مايلتمع في أفق الشاعر التماعاً بيّناً ؛ليفرض عليه الجنوح إلى التورّع ؛ومن ثمّ الاستكانة إلى الزهد..
كذلك فإنَّ الغصص الموَّارة في قلبه ؛والأوجاع التي أرقته ؛والقلق الصاهر ؛تمثلتْ له سدوداً منيعةً ؛حالت دون بلوغه النشوة الأخيرة؛ بل وحتَّمتْ عليه أن يضرب صفحاً عن التماهي مع أسرار الغابة الصمَّاء ؛والتجاوب مع مطالبها الحسية الآنية ؛إذ تراءى له أنَّ كلَّ مشهد حُسنٍ؛ استجلته عيناه ؛مصيره إلى الذبول؛ أو الزوال؛وفقاً لضوء الوعي الذي استهدى به..
ذلك لأنَّه يدرك أنَّ اللذة مهما بدت جذابةً ماتعةً؛ تتخفَّى في أعماقها نذر الفناء ؛وتترصدها سهام المنايا؛ وهي بدورها توشك أن تعصف بها ؛أو أن تطمس معالمها ؛فتزيل بذلك بهرجتها ونضارتها ؛ومع إدراكه حقيقة الفناء الكامن في اللذة الموقوته؛إلاأنَّ سلطان النفس الأمَّارة؛يحاول انتزاع هذا القرار من قبضته؛إلى درجة أنه يحاول أن يلهيه عن صوت الوعي؛ الذي استقرَّ في أعماقه.
*******
-القيم الفنية والتعبيرية:
-استهلَّ الشاعر قصيدته معتمداً على جناحي :(النفي والإثبات في شطري البيت الأول) ؛إذ نراه يتكىء على أداة “لم” النافية في قوله -معبراً عن الغائب- :” لم يرسلوا أبداً له عنوانا ” ؛وهي-أعني لم- أداة نافية ؛ تختص بالدخول على الفعل المضارع؛ فتقلب زمنه من الحاضر للماضي ؛ إضافة إلى أنها تشي بإمكانية وقوع الحدث الإيجابي مستقبلاً ؛ويشي المطلع أيضاً بأنَّ الشاعر الغائب هنا خكان يجيب عن سؤال ألقي عليه؛ بعد أن طال أمد غياب أحبته ؛سؤال مفاده أبعثوا لك العنوان؟!
ثمَّ سرعان ما أردف جوابه في الشطر الثاني ؛مستدركاً بأداة النصب” بلكن “ّ؛ليؤكد على روح الاستقلالية ؛والشعور بالاستغناء؛ عن فعل الهداية إلى الطريق؛ساخطاً في قرارة نفسه على نوعية التجاهل المُريب الذي تعرّض له.
-عنصر التشخيص: وفيه أضفى الشاعر صفات إنسانية على بعض الكائنات التي استعملها ؛ كما في قوله:”أصغى لروح الريح”؛ و”عبثت به الأيام”؛و “مامن غابة إلااشتهتك”؛والموت يأتي مرة”.
-في عبارة”مشى على شغف”؛ استعارة مكنية كما يقول البلاغيون ؛حيث يشبّه حجاب القلب ؛بالأرض التي يُسار عليها؛وفي هذا التعبير ؛إيحاء بأنّه كان يضمر لهم في أعماقه؛ مودة ولهفة وأملاً ورجاءً؛وفيه بدت الأرض أثناء سيره كالقلب الألوف الحاني؛لايريد لها أن تتعرض لوطء أقدامه وغبارها؛إلاَّ برفق شديد؛وهدوء ناعم.
كذلك تبزغ لأعيننا صورة فنية مركَّبة؛طرفاها وجهٌ يشبه القمر في بهائه؛ وصفائه؛ ووضاءة حسنه؛ في قوله:”ياوجهه القمري” المعبّر عن بطل الرحلة؛إضافة إلى خاصّية المجاز في إطلاق “الجزء” ؛والمُراد “الكلّ”.
-توحي لفظة “مامن غابة” في اشتهائها مروره العابر ؛باستيعابها آلام الشاعرالدفينة؛واستغراقها -تبعاً لحرف”من “هنا- ؛والرغبة في مقاسمته لوعته وأساه ؛ومطارحتها همومه المعتلجة في أعماقه ؛ ؛وتعويضه عمّا أصابه من فقدانٍ أسيف؛بعد أن نفض الشاعر يديه ؛من أصحابه الذين خذلوه؛وفي الإيماء بلفظة “غابة “؛ وهي الأشجار الكثيرة الملتفّة حول بعضها البعض ؛مايوحي بصورة الوحوش الضارية منها والوادعة؛ إذ هي تستوطن الغابات ؛وفيها تقيم شريعتها المتعارف عليهم بقولهم :”شريعة غاب”؛ ويبدو أنَّ غموض أهل ودِّه؛يأخذ بعض سمات الغابات.!
-في البيت ماقبل الأخير يعود الشاعر إلى الاستدراك “بلكنَّ” ثانية؛في سياق نفي إذعانه أو استسلامه لمطمع الاشتهاء المشار إليه.
-ورود استخدام “ثمّت قِبلة”؛تنبيء عن عشق عميق استقرّ في وجدان الشاعر تجاه”قِبلة” واحدة؛ لاثاني لها؛ وهي توحي بالاستقامة المُطلقة على الصراط السويِّ؛وكأنه بذلك؛ أراد أن يومىء إلى قوله تعالى :(قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
-استثمر الشاعر فنّ الرمز في هذه القصيدة دون إيغالٍ أومغالاة منفّرة؛إضافة إلى فنِّ التكثيف الدقيق.
-اتسمت عاطفة الشاعر بالسكينة؛وسرتْ في أعطافها نوازع الرجاء والأمل.
-جاءت خاتمة القصيدة محتفيةً؛بالعزف على وتر التجدد ؛والاستمرارية ؛وذلك من خلال استخدامه ؛ الأفعال المضارعة “يدري؛يأتي؛يسعى” ؛وثلاثتها تعبير عن المفرد الغائب الذي استهلّ به نصه ؛وهو هنا يؤكد فطنة ذلك الغائب ودرايته؛بحقيقة الموت؛وتسليمه في أنَّ له مهمة دقيقة لايحيد عنها فهو الآتي مرَّة واحدة ؛كما في قوله”يأتي مرة”؛مايلبث الشاعر بعد هذا التقرير المطمئن ؛حتى يصدح بشطر المفاجأة في قوله:”وعليه أن يسعى له أحياناً”؛ويلاحظ في هذا الشطر لفظة “عليه”؛ فهو تركيب “قصْري “؛ إن صحّ التعبير يوحي بصرامة الأمر؛ وحتمية الأداء ؛ولعلَّ الشاعر يشير هنا إلى مسألة التضحية بالأرواح ؛ عندما يكون الأمر متعلّقاً بتهديد عدوّ ما؛تمتد أطماعه ؛ إلى مالايحسن السكوت عليه من قضايا الإنسان؛ مما له صلة وثيقة بكيانه ؛ومقوّمات حضارته.
عدا ذلك فإنَّ النفس الإنسانية العزيزة
تأبى -في محيط علاقاتها- حياةً وشاحها الزيف؛ والمكر؛ وماشابه ذلك؛وفي ذلك التعبير المُكثف أيضاً نتلمس أصداء من المقولة التاريخية:”احرص على الموت؛ توهب لك الحياة”.
*******
نهاية المطاف:
يبقى أن أشير إلى أنَّه على الرغم من قصر أبيات القصيدة ؛ووقوفها عند العدد “سبعة” ؛لتكتسب جواز المرور إلى مصطلح القصيدة وفقاً لمادرج عليه دارسو الأدب قديماً ؛إلّا إننا نستطيع أن نقول عنها على حد تعبير القدماء : “ماء الطرب “يسيل من آنيتها الفاخرة؛سواء من حيث الغزارة الكامنة في عناقيد معانيها ؛أومن حيث الحلاوة المنبثة في موسيقاها النونية ؛إلى جانب لغتها الفاتنة؛وتراكيبها المشرقة ؛وأضفى عليها بحر الكامل -وهو المعروف بلطافة موسيقاه؛ ومرونته- رونقاً وجاذبية ؛وبذلك يكون شاعرنا القدير؛قد أوفى على الغاية في رصد تجربته المكثَّفة ؛صاعداً بها إلى الأفق الرحب.
وأخيراً أرجو بهذه المقاربة أنْ أكون ساهمتُ في إضاءة بعض معالم هذا النص الوجداني المُكثف؛لشاعرنا القدير؛داعياً الله له بالصحة والعافية والتألُّق المستمر في رحابِ اللغة الشاعرة.