تبرز بين حين وآخر أصوات الغيورين على لغة القرآن الكريم للمطالبة بإيقاف تغريب اللسان العربي الفصيح بكلمات ومصطلحات وافدة من لغات أخرى، يتفاخر بالحديث بها أو ببعض كلماتها ومصطلحاتها من يعتقدون أنهم بذلك يثبتون علوّ ثقافتهم وسموّ مكانتهم الاجتماعية، وينسون ـ عن عمد أو عن غير عمد ـ شرف لغتهم العربية التي أُنزل بها القرآن الكريم، وبلَّغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها رسالة الإسلام العظيمة، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ).
وبينما اندثرت لغات وتشظت أخرى إلى عدة لغات مثل ما حدث على سبيل المثال في اللغات اللاتينية والأنجلو ساكسونية، وسيحدث لها لاحقًا ما حدث سابقًا، فإن اللغة العربية الشريفة تستمر قوية فصيحة بإرادة الله تعالى الذي حفظها بحفظه للقرآن الكريم، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ).
وقد تصدرت اللغة العربية المشهد خلال تسيُّد الدولة الإسلامية لخارطة العالم، وعندما ضعفت الدولة، وتفرقت أقاليمها تهيأت الفرصة لأعداء اللغة العربية لشنّ حرب شعواء عليها لإضعافها، وتقوية اللهجات المحلية لتصبح لغات جديدة تخرج من عباءة العربية محاولين إيهام العرب بأن لغتهم كانت سبب تخلفهم عن ركب التطور الذي يشهده العالم، وعلى الرغم من استمرار فشل هذه المحاولات، إلا أن ثلة قليلة من أبناء العرب الذين تلقوا تعليمهم باللغات الأجنبية في الغرب بدأوا يستعرضون مهاراتهم في الحديث بها في الطرقات والأسواق والمقاهي وفي وسائل الإعلام، الأمر الذي جعل بعضهم يتعمّد تضمين حديثه في المجالس والمنتديات كلمات ومصطلحات أجنبية ليبهر مستمعيه بثقافته؛ وكأن لغته العربية غير قادرة على استيعاب ما يريد أن يتحدث عنه فيهجرها إلى غيرها، ولذلك يتساءل حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربية عن هذا الهجر حين قال:
أَيهـجُـرنِي قـومِي ـ عـفـا الله عنهمُ ـ
إلى لـغـــةٍ لــمْ تـتّــصـــل بـــرواةِ
سَرَتْ لُوثَةُ الإفْرَنجِ فيها كمَا سَرَى
لُعـابُ الأفـاعي في مَسـيلِ فُـــراتِ
هذا الهجر وصل إلى حدّ أن معظم المؤسسات والمنشآت والمحلات التجارية في أغلب المدن العربية أصبحت تتسمى بمسميات غربية، وتضع على مداخلها لوحات مكتوبة بلغات أجنبية لاجتذاب الزبائن؛ وكأنها في بلد لا يتحدث أهله باللغة العربية، وتجاوز ذلك إلى أن وصل الأمر لبعض المسؤولين الذين يتحدثون باللغات الأجنبية خلال تمثيلهم لدولهم العربية في المؤتمرات واللقاءات الخارجية، وأحيانًا في اللقاءات المقامة على الثرى العربي.
وقد أحسنت حكومة المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان ـ حفظهما الله ـ حينما استحدثت وزارة للثقافة تهتم باللغة العربية وآدابها وثقافتها، والمأمول أن تقوم هذه الوزارة الفتية بقيادة وزيرها الشاب المثقف الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان بحَثّ الجهات ذات العلاقة على إصدار قوانين تهدف لمكافحة الهجمة الشرسة للغات الأجنبية التي بدأت تحتل واجهات المحلات في شوارعنا، واعتماد الأسماء العربية لتحتل صدارة اللوحات، ولا يمنع أن تكتب الأسماء بلغة أجنبية تحت اللغة العربية وبمقاس أصغر منها في حالة الحاجة لذلك.
كما نأمل أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة التي يتحدث بها جميع مسؤولي الدولة في المؤتمرات واللقاءات التي يشاركون فيها كممثلين عن المملكة في الداخل والخارج؛ فهم القدوة في الالتزام باللغة الرسمية للدولة، وكذلك القدوة في الاعتزاز بلغتنا وتأكيد حضورها بقوة على جميع المستويات، فهي بالفعل لغة مثلى:
لنـا لغـةٌ في حرفِهـا النبضُ والحِـجَـا
بها أُنْـزِلَ الـذكـرُ الـذي بـدَّدَ الــدجىٰ
وأضـحَـتْ بـه أغـلىٰ وأعـلىٰ مكانـــةً
تفـوق لغـات الأرض سـبكًا ومنهجـا
بهـا نعـبـد الـرحمٰـن فـي صلـواتـنـا
ويغـدو لسان العبد بالشكر لاهـجـا
هـي اللـغـةُ المـثـلىٰ بكـلّ فـنـونـهـا
بـأدابـهــا شـعـرصا ونــــثرًا مـخــرّجــا
هـي البحر بالمرجان والـدرِّ عـامـرٌ
هـي المنجـم الأغـنىٰ ثـراءً ومنتجـا
…………………………………………………
علي بن هجّاد