المقالات

إعادة الماضي

سبحان الله الذي خلق وأفنى، الذي أمات وأحيا، أرددها حين تزدحم وتتراكم حولي دقائق الوقت المُعاصر؛ حيث تعود بي ذاكرتي إلى زمنٍ صادر، ‏تتالى على تركيزي الأحداث اليومية، ولكني أعود وأستجمع بأسي، ‏وأعدو مُندفعًا في مُخيلتي إلى حيث مَسقط رأسي، أُفتش عن أجمل الأماكن التي وطأت، والتي لم تطأ عليها قدميّ، وعن كل حجر أو شجر أو مدر لمستها بيديّ، ‏أتذكر متأملًا متألمًا أقدم البنيان، في المساكن وفي المزارع وفي الوديان.
تستعيد خواطر نفسي ولواعجها اعتزازي وبريقي، عندما أتذكر عادات التواصل الاجتماعي الحقيقي، طريقة تعامل الناس مع الأحداث اليومية، أسلوب إقامة الأعراس والأعياد السنوية، أتذكر أدق التفاصيل، الأدوات المستعملة في الزراعة، وفي الإضاءة، وفي تجهيز الزاد، وفي السفر، أسماؤها المميزة التي تكاد تكون مصطلحات مُبهمة غير مفهومة الآن بين الأبناء، معانيها وفوائدها المُترعة بالبساطة والاكتفاء.
أجد معظم العادات الرائعة والممارسات الجميلة قد اندثرت وولّت، وهذا شيء طبيعي حدث في كل حقبة حلّت، ويحدث وسيحدث حتى ما شاء خالق شؤون الخلق، ولكن الأجيال القادمة لا تُدرك الفرق، كانت حياة شاقة وكل من عاشها قد أفلوا رحمهم الله، أما من بقي فقد اختار كلٌ منهم خيارات مختلفة، وهم من يمكن ان نستشف منهم ما يمكن أن نُعيده إلى الحاضر، ولو على سبيل الاحتفال بأن نعيش يوم من الماضي.
هل ممكن أن نهرب قليلًا من الحاضر؟!، ننسى ولو لوهلة الاهتمامات التي يزينها فقط الظاهر، هل ممكن أن نُدرك أن ظاهرها الجميل، يفتقد المعنى والمضمون الأصيل، هل ممكن أن نُعيد على أرض الواقع جزء من الماضي؟!، ليستعيد الآباء والأجداد بعضًا من ذكرياتهم، قبل أن يتمكن الأجل من إدراكهم، وليروا الأبناء والأحفاد مدى ما يعيشونه الآن من اختلاف، ‏وكيف كانت حياة الأسلاف، ليعتبروا ويتعظوا ويُقدِروا ويخشوشنوا، والأهم هو إذكاء نفوسهم بروح الأصالة والانتماء.
يبقى كل شيء قديمًا في الماضي مدفونًا، والأمل الوحيد المُتبقي هو أن نجد مُهتمون، لهم أيدٍ وقلوب تُنعش الحاضر، وتُعيد فيه روح الماضي، فإن التراث ثروة، وبدونه نبدو؛ وكأننا أغصان بلا جذور، ولنا حاضر بلا ماضي، وماضي بلا حضور، وإن كُـنّـا فقط نسمع عنه في الحكايات، لا نراه ولا نلمسه ولا نشعر به، فإنه سيبقى تحت أنقاض الأيام والليالي التي مضت، وليس لنا أن نعتبره أو نسميه تراثًا، وفجأة وفي غمضة عين تنبهت لما حولي وأنا أكاد أن أصرخ بأعلى صوت: أعيدوا لنا الماضي.

ودمتم بود .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button