بعد عودة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع، من جولته الإقليمية وزيارته لكل من جمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية والجمهورية التركية في الفترة الواقعة ما بين يوم الإثنين 21 ذي القعدة 1443هـ، الموافق 20 يونيو 2022م، ويوم الأربعاء 23 ذي القعدة 1443هـ الموافق 22 يونيو 2022م، فإن مدينة جدة تكون قد تهيأت تمامًا لرسم ملامح مستقبل جديد للمنطقة العربية ومن ورائها إقليم الشرق الأوسط وفقًا للرؤية السعودية الجديدة المأمول خروجها إلى حيز التنفيذ في وقت قريب.. وبصورة أكثر تحديدًا بعد لقاء القمة السعودية/الأمريكية التي ستعقد في 15 يوليو 2022م، بين الرئيس جو بايدن وبين خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لبحث قضايا على درجة كبيرة من الأهمية، تتصل بتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين والوضع في منطقة الشرق الأوسط، في ضوء المستجدات التي يشهدها العالم في الوقت الراهن بكل انعكاساتها الأمنية.. والاقتصادية.. والسياسية عليه.
وكذلك القمة الخليجية العريبة التي ستعقد في اليوم التالي بمشاركة الرئيس الأمريكي “بايدن”، وحضور لكل من جلالة ملك الأردن عبدالله بن الحسين الثاني، وفخامة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس وزراء العراق، مصطفى الكاظمي، وهو اللقاء الأول من نوعه لبلورة سياسة فاعلة للتعامل مع قضايا الأمن والاستقرار في المنطقة، ومواجهة الأخطار والتحديات التي يتوقع أن تشهدها في ضوء إصرار إيران على المضي في برنامجها النووي، وتهديد المنطقة والعالم، ووضع حد لتدخلاتها في شؤون الإقليم الداخلية، جنبًا إلى جنب تنسيق المواقف تجاه الأحداث والتطورات التي تشهدها الساحة الدولية..
أهمية الجولة
وانطلاقًا من هذه المعطيات وسواها يمكن النظر إلى أهمية الجولة التي زار خلالها الأمير محمد بن سلمان الدول الثلاث للخروج بقراءة دقيقة للمستقبل الذي تعمل القيادة السعودية لرسمه لمنطقة متوترة في زمن لا يحتمل المزيد من الانتظار لمفاجآت لا قبل للمنطقة بها، ولا قدرة لشعوبها على تحمل تبعاتها.
وباختصار شديد نقول: إن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أدركا نتيجة قراءة فاحصة للأحداث والتطورات الإقليمية والدولية، أن الوقت قد حان للقيام بخطوة جادة للتهدئة، وتجنب أسباب التوتر -من جهة- وللعمل على احتواء التعقيدات، وتجاوز الخلافات كأساس للعمل على تصحيح المسارات التي أدت وتؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار، وإيجاد أرضية مشتركة لتعاون أوثق بين دولنا العربية -بصورة أساسية- ثم بينها وبين الأصدقاء في هذا العالم وفقًا لمصالحنا المشتركة.. وبما يحقق الأمن والاستقرار والسلامة للجميع في المنطقة والعالم.
ومن هنا جاءت أهمية التحرك السعودي المدروس بعناية والمخطط له برؤية ثاقبة ومنذ وقت مبكر، وعلى المستويات التالية:
أولًا: إيجاد فهم مشترك بين دول مجلس التعاون يعزز روابطها البينية، وجاء بيان “العُلا” مجسدًا لهذا التوجه.
ثانيًا: البناء على الخطوة السابقة بتحديد الشركاء الثلاثة الأوثق (مصر/الأردن/ العراق) للعمل معًا على إعادة بناء منطومة عربية قوية وقابلة للنمو؛ وذلك في إطار مراجعة للعمل العربي المشترك وتطويره على كافة المستويات.
ثالثًا: تصحيح وتطوير مسار العلاقات العربية مع الشركاء الدوليين، وتعزيز أوجه التعاون بيننا وبينهم على أسس متينة واستراتيجية الأبعاد وبتوازن محسوب، وبحسابات دقيقة للأرباح والخسائر. وبالتالي كان الإعداد المحكم لزيارة الرئيس الأمريكي (جو بايدن) للمملكة -في هذا الوقت- بالذات- ولقائه المرتقب بخادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد.. ثم بحضور القمة الخليجية العربية بعد ذلك، بهدف إعادة رسم القواسم المشتركة العظمى بين العرب وأمريكا والاتفاق على أسس موضوعية للتعامل مع قضايا الإقليم، وفي مقدمتها تحريك عملية السلام بين العرب وإسرائيل انطلاقًا من مبدأ حل الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، وفقًا لمبادرة السلام العربية والقرارات الدولية المعتمدة. وكذلك لتدارس الأوضاع الدولية في ضوء تطورات الوضع في أوكرانيا، وما ترتب عليه الآن وما قد يتطور إليه مستقبلًا بكل تأثيراته على دولنا وشعوبنا ودول وشعوب العالم بأسره، إن على المستوى الأمني .. أو السياسي .. أو الاقتصادي، وبالتأكيد فإن الهدف الأسمى من هذه القمة العربية الأمريكية هو: رسم خطوط عريضة للتعاون بينا على أسس موضوعية تحكمها التوازنات الهادفة التي تجنب التصعيد واستبعاد تطور الموقف إلى حروب تدميرية واسعة لا مصلحة لدول وشعوب العالم من ورائها.
ومن أجل ذلك كله فإن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، اختار الوقت المناسب للقيام بجولته الهامة، وزيارته للدول الثلاث بعد دراسات مستفيضة وإعداد محكم لضمان الخروج بنتائج على درجة كبيرة من الأهمية، وتصب في قناة العمل البناء لتحقيق الأمن والاستقرار ليس في منطقتنا فحسب.. وإنما في العالم أجمع.
أوراق ثمينة بيد المملكة
لكن ما يجب أن نتذكره جيدًا، ونحن نتابع -كمراقبين- هذا التحرك السعودي الهام لاحتواء التوتر في المنطقة والعالم. هو:
أن عملية التقارب بين المملكة وتركيا(أولًا) ثم بيننا وبين أمريكا (ثانيًا) قد جاء بمبادرة من الدولتين الصديقتين، وهو ما نقدره ونحرص على توسيع دوائره ومكتسباته على كافة الصعد.
وأن المملكة لم تتأخر لحظة واحدة في الاستجابة الفورية لتحرك الدولتين في الاتجاه الصحيح، والعمل من جانبنا على دعم وتعزيز أواصر الصداقة والشراكة والثقة بيننا وبينهم.. وذلك باتخاذ خطوات إيجابية وبناءة، سواء من خلال الدور الفعال الذي قمنا به داخل منظومة (أوبك+) أو من خلال التخفيف من وطأة ارتفاع أسعار الطاقة، أو بالعمل على التهدئة بكل مستوياتها، وتجنب التصعيد والحد من الأضرار ليس فقط على دول وشعوب المنطقة، وإنما على مستوى العالم أجمع.
حدث هذا على مستوى الاتصالات والزيارات والتفاهمات التي جرت بيننا وبين العديد من دول العالم وهيئاته ومنظماته.. كما حصل على مستوى الإمدادات النفطية وتخفيف آثار الأزمة.. وذلك على المستوى الدولي.
كما تم ذلك على مستوى الإقليم.. بفتح الأبواب المغلقة، وتفعيل الاتفاقات المشتركة، وتوسيع دوائر التعاون مع تركيا. وبالمزيد من الدعم ورفع معدلات الاستثمار وتبادل المصالح مع الشقيقتين العربيتين مصر العربية، والمملكة الأردنية الهاشمية.. وكما هو الحال مع دولة العراق الشقيقة.. جنبًا إلى جنب لتعزيز مسيرة دول مجلس التعاون بتحقيق المزيد من التكامل بين دولنا وشعوبنا وبصورة غير مسبوقة.
الهدف النهائي من التحرك السعودي
وفي النهاية فإن المملكة تهدف إلى:
1- إعادة التوازن للمنطقة بعد فشل نظرية وزيرة الخارجية الأمريكية “كونداليزا رايس” المعروفة بـ”الفوضى الخلاقة” لإقامة شرق أوسط جديد.
2- تبنّى سياسة “الاعتماد على الذات” أمنيًا، وسياسيًا واقتصاديًا، عن طريق تحقيق المزيد من التكامل بين دولنا العربية.
3- فتح خطوط عديدة للشراكة مع كافة دول العالم وشعوبه وفقًا لمصالح دولنا وشعوبنا العليا بدلًا من الاعتماد الكلي على سياسة المحاور الضيقة.
4- الاستعدادات -من الآن- للتعامل مع ظروف ما بعد الحرب الحالية في أوكرانيا بكل انعكاساتها المرتقبة على النظام الدولي في حالة فشل الجهود الرامية إلى إيقافها أو الحد من تداعياتها.
لكل ذلك أقول:
إن المملكة العربية السعودية، وبكل ما تملكه من أوراق.. تؤكد على أمرين مهمين هما:
أولًا: أن مصالح دول العالم وشعوبه مترابطة.. وأن تكامل هذه المصالح هو خيارنا الأمثل لقيام تعاون دولي وثيق خدم الأمن والاستقرار في كافة أرجاء المعمورة.
ثانيًا: أن سياسة الابتزاز وفرض الأمر الواقع.. والهيمنة أو التدخل في الشؤون الداخلية للدول لم يعد مقبولًا في عصر يعتمد على الشراكة لصناعة المستقبل الأفضل للإنسان.. في ظل الاستقرار الدائم والشامل، وتطوير المكتسبات ومضاعفتها.
وإذا كان هناك ما نأمل فيه أكثر من غيره فهو أن يتجه العالم بكليته نحو السلام، وبناء المجتمعات من من الداخل، وتجنب الصراعات مع الغير، وتوجيه المدخرات لخير دوله وشعوبه.. وصناعة الأمان وتعزيز مقوماته، وهو ما تسعى إليه المملكة العربية السعودية فتح جميع الأبواب والتحاور مع الكل، لإنهاء جميع القضايا المعلقة وإطفاء الحرائق سواء في المنطقة العربية والإقليم، أو في أي مكان من هذا العالم.