تشرفت بإهداء لطيف من أخي العزيز الدكتور ناصر بن عبدالله الخرعان لروايته الأولى “ريحانة الجنيّة والمقعد 32″ ورغب إلي في تقديم قراءة للمضامين الاتصالية للرواية، وهي ثقة أتشرف بها، وحسن ظن أسأل الله أن أكون مستحقاً له.
مزجت الرواية في منهجية تأليفها بين اتجاهين هما:الواقع والخيال، وهو تجاه هجين يتناسب مع ما نعيشه من تطور متسارع في نهج الحياة وإيقاع أحداثها ومتغيراتها، فقد ربط بين أحداث في حياته الشخصية،والرواية عن من سمع منه، وخياله الواسع الذي أثرى الرواية، في تقديم تفاصيل في مشاهد الرواية منحتها التسلسل والترابط، ولم تخلو الرواية من سرديات ثقافية ومعرفية ممتعة نقلت تجارب ناضجة وأدب متقن، وعكست الرواية في الوقت نفسه جوانب مهمة من شخصية المؤلف وبصمته الخاصة، التي نكّهت الرواية وأضافت لها لمسة من الإبداع والتفرد.
اتسم أسلوب عرض الرواية بالسرد السلس واللغة السهلة، وتنوع المفردات وتناغم الأفكار وترابطها،بصورة تجعل القارىء لا يتوقف إلا بعد أن يختم قراءتها، وهو نهج منح الرواية وزناً ثقافياً يضيف للقارىء ويمتعه، وكانت مشاهد الرواية وحبكتها الفنية لا تخلو من الصراع المتماسك في بنيته وتدرجه؛ فمنح القارىء فرصة للمشاركة في العيش مع أحداثها والتغلغل في تفاصيلها، ورسم الصور الحية لمشاهدها، وهي بهذا الاتسام وجبة دسمة في طبق جميل.
وعن مضامينها الدلالية ورسالتها الاتصالية استوقفني نصها عدة وقفات، الأولى: الانغماس في التعرضوهي سمة اتصالية تحتاج من صانع المحتوى قدرة فائقة على جعل القارىء يعيش في قلب الحدث بكل تفاصيله، وكأنه أحد شخوص الرواية، وهو هدف اتصالي يسعى الكاتب من خلاله إلى تحريك مشاعر القراء واقناعهم بمضامين نصه، وتهيئة ذهنه لقبول رسالته وإحداث التأثير الذي يتغياه، وأزعم في هذا الصدد أن المؤلف قد نجح في ذلك بل أتقنه، والثانية: الدلالات الإيحائية والمعاني الضمنية، التي سعى المؤلف إلى إيصالها للقارىء محترماً عقله ونضجه في منحه فرصة التفكير والتحليل والربط والاستنتاج والمقارنة والنقد؛ إذ تشير الدراسات الاتصالية أن الإيحاء والترميز وعدم المباشرة في الطرح أفضل أساليب الاقناع في منح القارىء والمتعرض للمحتوى فرصة الاكتشاف والاستنتاج، وبالتالي تحقيق التأثير المستهدف، وقد ضمن المؤلف روايته عدداً كبيراً من الرسائل الضمنية والدلالات الإيحاية التي يطول المقام عند ذكرها، وقد تختلف نسبياً بين قارىء وآخر، فيصعب رصدها وتصنيفها،وهو جزء من تميزها وتفردها، ليفسرها القارىء وفق ما يراه، وتشير الثالثة إلى: غنى النسيج الاجتماعي للرواية على اختلاف المخلوقات والأجناس والعادات والأعراف التي تناولتها، عبر تفاصيل الحياة اليومية التي أكدت قيمة هذا النسيج ودوره الوظيفي في تحقيق الاستقرار الاجتماعي؛ فالعلاقات التي برزت بوضوح في أحداث الرواية بشقيها الإنسي والجني تزخر بالمواقف الاجتماعية والتماسك الأسري، مع شيء من المبالغة والخيال الذي منحها خروجاً مقبولاً عن المألوف، لكنها في الوقت نفسه قدمت نماذج مميزة لنهج الحياة الاجتماعية وما ينبغي أن تتسم به تلك العلاقات، وتتعلق الوقفة الرابعة: بالإثراء اللغوي والتثقيف العرضي عبر لغة راقية تضيف للقارىء مزيداً من المفردات اللغوية والفصاحة اللسانية في الحوار الاجتماعي، إضافة إلى تضمينات المؤلف الثقافية في عرض نماذج شعرية ومعلومات مهمة أوردها في سيقات منطقية تساعد في تجسيد معانيها في الحياة الاجتماعية.
ولا تخلو الرواية في مجملها من ملحوظات فنية ومنهجية واتصالية، يفضل الأخذ بها في الإصدار التالي للرواية لمزيد من التطوير والتجويد، خاصة أنها التجربة الأولى لمؤلفها وهي اللبنة الأولى لصعوده إلى الرواية التالية مستفيداً من تجربته الأولى وآراء القراء والنقاد؛ فيضيف إلى تميزه مزيداً من الإبداع والامتاع، ولعلي أعرضها في النقاط الآتية:
▪ الرواية بحاجة إلى مراجعة المسار الديني في مفاصل أحداثها وأفكارها الرئيسة، لأنها تتناول العلاقة بين الإنس والجن وفي هذا الاتجاه يمثل استصحاب الرأي الشرعي – عبر هوامش خراج متنها- ملحظ مهم يمنح الرواية قوة في سلامة أفكارها وتناولاتها، ويجعل القارىء يثق بمجرياتها ومصداقية مؤلفها.
▪ الرواية بحاجة إلى أن يعتمد مؤلفها في التوثيق والتهميش على المصادر الأصلية، لأنه من غير المناسب منهجياً توثيق المحتوى من المصدر الثاني أول الثالث، رغم توفر المصدر الأول وهو نهج علمي معتد به في التوثيق والإحالة.
▪ الرواية بحاجة في بعض مشاهدها التي تتسم بالخيال أو غير مؤكدة الحدوث، أن يهمش لها بما يوضح ذلك للقارىء حتى لا يلتبس عليه الأمر بين الخيال والواقع والمعلوم والمجهول.
▪ الرواية نخبوية الجمهور وبالتالي قد لا تناسب بعض فئات القراء؛ فلو حدد المؤلف الفئة المناسبة لقراء روايته، لكانت إضافة رقيقة تحدد الفئة المستهدفة،وتظهر في الوقت نفسه مهنية المؤلف في تحديد قرائه وفهم خصائصهم الاتصالية والثقافية، ومخاطبتهم وفق المقام الذي يناسبهم.
▪ تضمنت الرواية أحداثاً قد لا يصدقها العقل نسجت خيوطها بين عالمين مختلفين، وهو ما يولد صراعاً لا ينتهي، دون برهان يدعمها، وبالتالي ربما يعكسهذا النهج قبولاً للرواية، أو رفضاً لحقيقتها وإمكانية حدوثها.
لا تقلل هذه التفضيلات النقدية من القيمة الأدبية لرواية”ريحانة الجنيّة والمقد 32″ للدكتور ناصر بن عبدالله الخرعان، فهي منتج ثقافي يمثل تجربة روائية جديرة بالاهتمام، وتستحق القراءة والتداول والمناقشة، وأظهرت بوضوح قدرة كاتبها على السير قدماً في هذا الخط الأدبي المتألق، لنراه عن قريب -بإذن الله- قلم عربي مبين.