حظي موضوع الحج في أدب الرحلات عبر تاريخ الحج بقدر كبير من التوثيق من الأدباء والعلماء والمثقفين الذين أدوا الفريضة، ورسموا على الأوراق مشاعرهم وخواطرهم، فلم تكن رحلة الحج شيئًا عابرًا في ذاكرتهم، لذا أودعوه في ذاكرة الناس من خلال ما سطروه عنها.
يقول الدكتور شعيب حليفي في كتابه (الرحلة في الأدب العربي): إن البشرية عرفت الرحلة باعتبارها فعلًا إنسانيًا في كل المراحل، وبأشكال مختلفة، حامِلةً تجارب وخبرات اختلط فيها اليومي بالمتخيل بتلوينات وإرشادات دالة.
ويعتبر د. حليفي أن القرن التاسع الميلادي وبحسب ما هو متوفر الآن هو بداية التاريخ للرحلات العربية المكتوبة مع اتساع دائرة التأليف في التصنيف، وفي الرسائل المتصلة بالمسالك والممالك وغير ذلك.
وللرحلات أغراض ودوافع مختلفة، وقد قسّم الباحث فؤاد قنديل في كتابه (أدب الرحلة في التراث العربي) أهداف الرحلات إلى سبعة أقسام، إحداها “الدوافع الدينية” كأن يرتحل الإنسان بجسده إلى الأماكن المقدسة تلبية لنداء الرحمن.
ولا شك أن أي مسلم يتطلع إلى القيام برحلة الرحلات إلى مكة المكرمة والمشاعر المقدسة لأداء الفريضة ولو مرة في العمر. كما يتطلع المسلمون إلى زيارة المدينة المنورة للصلاة في المسجد النبوي الشريف، والتشرف بالسلام على صاحبه عليه أفضل الصلاة والسلام.
ولم تُقْصَدْ مدن في العالم كما قُصِدَتْ المدينتين المقدستين: مكة المكرمة والمدينة المنورة، قصدهما الملايين من البشر من كل أرجاء البسيطة، يحجون ويزورون، ثم إلى بلادهم يعودون سعداء مطمئنين.
من هؤلاء المسلمين الذين قاموا برحلات حج، كثيرُ من الرحالة المسلمين الذين كتبوا كتبًا عن رحلات حجهم، دونوا فيها مشاهداتهم ومشاعرهم، وسطروا لنا بأقلامهم ما سجلته عدسات ذاكرتهم عن رحلاتهم تلك.
وقد قام علّامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- بإصدار كتاب عن بعض أشهر هذه الرحلات أسماه: (أشهر رحلات الحج)، دَوَّنَ فيه أسماء البعض من هؤلاء الرحالة، وذكر أسماء كتبهم ومؤلفاتِهم، وتحدث عن رحلاتهم بشيءٍ من التوسع أحيانًا، وبالاختصار أحيانًا أخرى.
وأشار الجاسر -رحمه الله- في هذا الكتاب: “أنه لا يتسع المجال لأكثر من ذكر أهم رحلات الحج، التي في ميسور كل باحث الاطلاع عليها”.
وقد تحدث علامة الجزيرة في هذا الكتاب القـيّم عن الرحلات التالية:
رحلة ابن جبير (528-607هـ)، ورحلة ابن رشيد (657721هـ)، ورحلة العبدري الذي حج عام (689هـ)، ورحلة التيجي (670730هـ)، ورحلة عميد الرحالة ابن بطوطة (703779هـ)، ورحلة البلوي الذي حج سنة (738هـ)، ورحلة الصفدي المتوفى سنة (764هـ)، ورحلة القلصادي المتوفى سنة (891هـ)، ورحلة محمد بن عبد القادر الجزيري صاحب كتاب (درر الفوائد المنظمة) والمتوفى سنة (944هـ)، ورحلة البكري، وهو من أهل القرن الحادي عشر الهجري، ورحلة القيسي المعروف بابن مليح، وهو من أهل القرن الحادي عشر الهجري أيضًا، والرحلة العياشية لصاحبها عبدالله بن محمد العياشي (1037-1090هـ)، ورحلة الهشتوكي المتوفى سنة (1096هـ)، والرحلة الناصرية لصاحبها أحمد بن محمد بن ناصر الدرعي (1057-1129هـ)، ورحلة النابلسي (1050-1143هـ)، ورحلة المنالي الزبادي المتوفى سنة (1163هـ)، ورحلة السويدي وهو عبدالله بن حسين السويدي البغدادي (1104-1174هـ)، ورحلة ابن عبد السلام المتوفى سنة (1239هـ)، ورحلة التامراوي الذي حج سنة (1242هـ)، ورحلة إدريس العلوي المتوفى في المدينة المنورة سنة (1331هـ) وهي وصف لحجته عام (1288هـ)، ورحلة ابن كيران المتوفى سنة (1314هـ)، والرحلة الحميدية لمؤلفها إسماعيل الحميدي المالكي، وهو من أهل القرن الثالث عشر الهجري وحج سنة (1297هـ)، وكذلك رحلة التونسي لصاحبها محمد بن عثمان السنوسي التونسي (1266-1318هـ).
كما تحدث الشيخ الجاسر عن بعض رحلات أهل القرن الرابع عشر الهجري، والتي قال: “إنها كثيرة”، وذكر من ضمنها: (دليل الحج) من تأليف محمد صادق باشا، و(مشعل المحمل) لمحمد صادق أيضًا.
كما ذكر (مرآة الحرمين) من تأليف اللواء إبراهيم رفعت باشا، وتحدث عن رحلة محمد لبيب البتنوني، وعن الارتسامات اللطاف في خواطر الحاج إلي أقدس مطاف للأمير شكيب أرسلان (1286-1366هـ) يصف رحلته للحج سنة (1348هـ).
هذه بعض أشهر رحلات الحج التي سجلها لنا رحالة مسلمون زاروا الأماكن المقدسة في الماضي في أزمنة لم تستخدم فيها وسائل النقل الحديثة الجوية والبحرية والبرية، ولا توفرت فيها وسائل الاتصالات المرئية والسمعية السلكية منها واللاسلكية، وغير ذلك من التقنيات الحديثة المختلفة التي نعرفها اليوم.