شاع في القرن الحالي مصطلح المدينة التي لا تنام كناية عن تلك المدن العالمية الكبيرة التي تتمتع بصخب شديد وحركة مستمرة للبشر والمركبات، والتي لا تتوقف ليلًا ولا نهارًا وعلى مدار العام كله، إلا أن هناك مدينة عصرية وذات طابع خاص لا تستيقظ من سباتها إلا مرة وحدة في كل عام، وفي مدة زمنية لا تتجاوز سبعة أيام، ومع ذلك فإنها تتعدى حدود الزمان والمكان وتفوق في استعداداتها أكبر مدن العالم المتطورة؛ حيث تصبح بكامل طاقـتها الخدمية في فترة وجيزة لتنضم إلى تلك المدن التي لا تنام رغم صغر مساحتها وكثرة الأعداد البشرية التي تتحرك داخل حدودها الجغرافية في منظر مهيب يجعل كل من يشاهدها يدرك أن هذا الأمر لا يمكن أن يحدث إلا في منطقة واحدة في العالم كله ألا وهي منطقة “مِنَى” (بكسر الميم وفتح النون)، والتي لا تبعد عن بيت الله الحرام سوى بضع كيلومترات؛ وذلك أثناء أداء الحجاج شعائر حجهم بدءًا من يوم التروية وحتى آخر أيام التشريق الثلاثة.
ومشعر “مِنَى”، وادٍ تحيط به الجبال من الجهتين الشمالية والجنوبية، وجمرة العقبة من جهة مكة المكرمة، ووادي محسر من جهة مشعر مزدلفة، ويعد أكبر المشاعر المقدسة مساحة؛ حيث تبلغ مساحة حدوده الشرعية حوالي سبعة كيلو مترات مربعة، مع العلم أن المستغل منها فقط حوالي أربعة كيلومترات؛ نظرًا للجبال الشاهقة التي تحيط به، إلا أنه ومع كل هذه الصعوبات في التضاريس فقد تم إنشاء مشاريع عملاقة ومقرات ذات بناء حديث للعديد من الدوائر الحكومية والجهات الخدمية العاملة على تيسير أداء مناسك حجاج بيت الله الحرام.
وإذا ما نظرنا إلى تلك المشروعات الهائلة التي أنشأتها حكومتنا الرشيدة والمليارات التي صرفتها من أجل تطوير المشاعر المقدسة؛ فإننا سندرك أن مشعر “مِنَى” يعد من المشاعر المقدسة التي نالها نصيب الأسد، وحظيت بالعديد من المشروعات الخدمية الكبرى بل تعدت ذلك لتكون واحدة من أجمل المدن العصرية الذكية، ويأتي في مقدمة هذه المشاريع العملاقة منشأة جسر الجمرات التي حرص قادة هذا البلد المعطاء على تنفيذها بكل دقة وعناية من أجل توفير الأمن والسلامة لحجاج بيت الله الحرام، فهو يعد من أكبر المشروعات الإنشائية في العالم؛ حيث تبلغ مساحته الإجمالية مع المنحدرات نحو ثلاثمائة وثمانية وخمسين ألف متر مربع، ويمتاز بتصميمه الفريد وشكله الانسيابي الذي يسمح بحرية الحركة بين الأدوار المختلفة وبعرض متفاوت يصل إلى قرابة مائة متر لا تتخلله أي أعمدة إلا على أطراف الجسر، ويبلغ طوله تسعمائة وخمسين مترًا وعرضه ثمانون مترًا.
ومن المشروعات التي تجعل من مشعر “مِنَى” مدينة عصرية حديثة مشروع الخيام المطورة، والتي روعي في تصميمها الطابع الإسلامي والمحافظة على رونقها القديم عندما كانت تصنع من القماش، مع الأخذ في الاعتبار مقاومتها للحرائق، وكذلك مقاومتها للعوامل المناخية كالعواصف والرياح، وكذلك مرونة أجزائها للتشكيل والتركيب؛ فأصبحت تلك الخيام من الداخل تضاهي أرقى الفنادق في الراحة والأمان؛ خاصة بعد أن تم تطويرها في هذا العام بشكل يليق بهذه الشعيرة العظيمة وبضيوف بيت الله، وذلك باستعمال أفضل التقنيات في كافة مراحل التصنيع والتنفيذ.
كما شهد مشعر “مِنَى” في السنوات الأخيرة قفزات وتطورات سريعة في خدمات نقل الحجيج فمن حافلات اللوري التي تعد من أوائل الحافلات التي نقلت الحجاج، إلى أسطول الحافلات الحديثة الأكثر راحة وسرعة لضيوف الرحمن، إلى قطار المشاعر المقدسة الذي هيئ بشبكات طرق عالمية ربطت بين المشاعر الثلاثة بأحدث التقنيات من أجل تيسير تنقلات ضيوف الرحمن.
وختام القول.. فإن المستشفيات الموسمية الأربعة بمبانيها الشاهقة والمجهزة بأحدث التقنيات والكوادر الطبية المتميزة في كافة التخصصات، والتي لا تعمل إلا في هذا الوقت من كل عام تقف شاهدة على مدى ما وصل إليه مشعر “مِنَى” من تطور ورقي، وكذلك حال بقية المشروعات التي لا تدب فيها الحياة إلا في أيام معدودات من كل عام؛ فقد شيدت وجهزت بأحدث التجهيزات، وكل ذلك من أجل خدمة حجاج بيت الله الحرام فقيادتنا الرشيدة وشعبنا الوفي جعلوا خدمة الحجيج نبراسًا لهم منذ قيام هذه الدولة المباركة على يد الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- كما جعلوا منها رسالة للعالم أجمع تحوي بين طياتها أجمل عبارات الترحيب بحجاج بيت الله، وأنهم في قلوبنا وأعيننا التي تحرسهم تحت عناية من الله، وأن الكل يريد أن يظفر بشرف خدمتهم وإعانتهم بعد الله -عز وجل- على إتمام حجهم بكل يسر وسهولة وكل ذلك وعلى محياهم ابتسامة عريضة تتوشح بها كافة المشاعر المقدسة ودعوات صادقة بأن يتقبل الله من الحجاج حجهم، وأن يعيدهم إلى ديارهم سالمين غانمين.
احسنت مقال أكثر من جيد وهناك قطار المشاعر الذي لايعمل إلا ثلاثة أيام في العام