يشهد مشعر “منى” في أجواء روحانية صداها التلبية والتكبير أكثر أعمال الحج عيد النحر، ورمي الجمرات، وذبح الهدي والأضاحي والحلق أو التقصير وطواف الإفاضة، وسعي الحج والإحلال من الإحرام، في ظل أمن وسلام ورخاء وخدمات متكاملة شاملة وفرتها قيادتنا الرشيدة، ويشرف عليها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين متابعًا جهود الحكومة وأداء الجهات المسؤولة في تأمين الحج وتسهيل حج الحجاج، واستقبال وفودهم، ومشاركتهم عيدهم وآمالهم في حج مبرور وسعي مشكور، وقد حظيت “منى” بمنظومة من الخدمات العصرية أمنية وبلدية، وصحية وخيرية ومواصلات، واتصالات وشبكات مياه وصرف، وكهرباء ومؤن وتوعية وتثقيف ورعاية، ومن شواهد التطوير شبكات الطرق والأنفاق ووسائل النقل وقطار المشاعر وجسر الجمرات والخيام المضادة للحريق، وتطويرها وإعمار سفوح الجبال والمجازر الحديثة، وغيرها كثير مما يسهم في جودة الحياة.
فإن الحاج ينزل “منى” في يوم التروية الثامن من ذي الحجة، ويصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم يصعد منها إلى عرفات بعد شروق الشمس من يوم عرفة.
 وبعد الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة يفيض منها إلى “منى” صبيحة يوم النحر قبل شروق الشمس ملبيًا حتى يصل الجمرات؛ فيرمي الجمرة الكبرى وهي الموالية لمكة بسبع حصيات وبرميها تنقطع التلبية، ويشرع الحاج في التكبير ثم يذبح الهدي ويحلق أو يقصر ويحل من إحرامه، وهذا هو التحلل الأول يحل له به كل محظورات الإحرام من طيب ولبس وقص وحلق وغيرها إلا النساء، ولا حرج عليه إن قدم أو آخر، ثم يفيض إلى مكة ويطوف طواف الإفاضة، ويسعى من يلزمه السعي وهو المتمتع أو المفرد، وكذلك القارن الذي لم يسعَ مع طواف القدوم، وبعدها يتم حله مما حرم عليه، وهذا هو التحلل الثاني.
ثم يعود الحاج إلى “منى”، ويبيت فيها ثلاث ليالي التشريق ويقيم بها أيامه، ويرمي الجمرات الثلاث الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى بعد الزوال من كل يوم بسبع حصيات متتابعات يكبر مع كل واحدة ، ثم يحدر من “منى” إلى مكة، ومن تعجل في يومين فلا إثم عليه، والتأخر أفضل اتباعًا لسنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ويطوف طواف الوداع قبل مغادرة مكة إلى بلده.
ومنى وادٍ شرق مكة سمي بهذا الاسم لتمني آدم -عليه السلام- الجنة وهو فيه، وقيل لأن العرب تسمي المكان الذي تجتمع فيه “منى”، وقيل لما يراق فيه من الدماء المشروعة في الحج وقيل غير ذلك، كما سميت أيامه يوم النحر، وهو يوم العيد الأكبر عيد الأضحى لنحر الهدي والأضاحي، والتشريق لأن الناس يقدون اللحوم ويشرقونها في الشمس، وفي ذلك أقوال.
ومن معالم “منى” الدينية والتاريخية الجمرات؛ حيث رجم الخليل الشيطان فكانت سنة الرمي، وعليها بنت الحكومة السعودية مأجورة جسر الجمرات العملاق الذي قضى على التزاحم والتدافع وسهل الرمي، وأصبح من معالم “منى” المعمارية الحضارية، ومسجد الخيف مصلى النبي -عليه السلام- الذي روي أن (٧٠) نبيًا صلوا فيه، وقد عمر عمارة سعودية حديثة عام ١٤٠٧هـ، ومسجد البيعة وهو مسجد أثري على مقربة من جمرة العقبة على كتف ممر الجسر ناحية مكة بناه الخليفة أبو جعفر المنصور العباسي سنة ١٤٤هـ في موضع البيعة في الشعب المسمى شعب البيعة أو ما يسمى بشعب العقبة أو شعب الأنصار الذي بايع فيه الأنصار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على النصرة فكانت بيعتهم له سببًا في الهجرة، وقيام الدولة وانتشار الدين.
وقد أزيلت العقبة في عهد الملك سعود توسعة لطريق الجمرات كما هذبت الجبال التي حول المسجد والشعب توسعة لمنطقة الجمرات حتى تستوعب الأعداد المليونية من الحجاج، وأصبح المسجد بارزًا للعيان، ومساجد أثرية أخرى اندثرت عدا ماذكرناه بسبب تعاقب العصور وتطوير “منى” خدمة للحجاج، ومنها مسجد المرسلات قرب مسجد الخيف بينه وبين الجبل الواقع سفحة قيل نزلت في موضعه سورة المرسلات، وفي منى قرين الثعالب قيل هو الذي ورد في قصة النبي مع ثقيف، وقيل ذاك موضع ميقات قرن المنازل الذي في السيل الكبير، وبين منى ومزدلفة وادي محسر قيل سمي بذلك؛ لأن فيل أبرهة حسر فيه ومنع من الدخول إلى مكة، وقيل هلك فيه على خلاف.
ومن حوادث تاريخ “منى” قصة إرادة إبراهيم الخليل ذبح ابنه إسماعيل -عليهما السلام- تنفيذًا لأمر ربه ففداه الله بذبح عظيم، وكان في منى مسجد أثري يسمى مسجد الكبش أو مسجد النحر شمال الجمرات بسفح جبل ثبير قيل كان في موضع الفداء، وقيل: إن رسول الله -صلى الله وعليه وسلم- نحر هدية في ذات الموضع على يسار الجمرات للصاعد إلى عرفات، وكان الناس يسمون ذلك الموضع من الجبل مجر الكبش، وفي “منى” انتزع قُصي بن كلاب الجد الأعلى للنبي أمر الإفاضة بالناس وأحقيته بمكة من خزاعة؛ فأضحى أمر مكة لقريش ونزلتها، وبها كانت بيعتا العقبة الأولى والثانية سنة ١٢و١٣ هـ.
كما أعلنت فيها سورة براءة ومنع المشركين من الحج سنة ٩هـ، وأخذ الناس في “منى” في حجة الوداع مناسك الحج التي تؤدى بها من نبيهم المصطفى -عليه السلام-.
* أستاذ كرسي الملك سلمان بن عبد العزيز لدراسات تاريخ مكة المكرمة – بجامعة أم القرى