وقد أتم الله للحجاج حجهم وأكمل لهم مناسكهم، داعين الله أن يكون حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا، فينفر المتعجلون منهم يوم النفر الأول من منى إلى مكة، وهو اليوم الثاني عشر من ذي الحجة، وينفر المتأخرون يوم النفر الثاني الثالث عشر من ذي الحجة، وبعد وداعهم بيت الله يعودون من مكة إلى بلدانهم سالمين غانمين إن شاء الله، مقتدين في ذلك بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فقد رخص الله للمتعجلين بقوله سبحانه: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) أما نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام- فقد تأخر ونَفَر في اليوم الثالث عشر، وفعله في ذلك اليوم أنه تحرى الزوال فرمى الجمرات الثلاث ثم أفاض من منى إلى مكة، ونزل بالأبطح ويسمى المحصّب ويسميه أهل مكة الآن (المعابدة)، ويقع بين منى والمسجد الحرام في وادي إبراهيم، وصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ونام قليلًا من ليلة الرابع عشر، ثم نزل المسجد الحرام آخر الليل فطاف طواف الوداع، وصلى بالناس الفجر ولم يدخل الكعبة في حجته؛ وإنما دخلها في فتح مكة مطهرًا لها من أرجاس الجاهلية ومظاهر الوثنية ومتعبدًا ومعظمًا لله ولبيته العتيق، ثم انصرف بأصحابه إلى المدينة فكان طواف الوداع آخر عهده بالبيت، وودع الناس في حجة عرفت في التاريخ بحجة الوداع لأن نبي الله دعى الناس إلى مرافقته قائلًا: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فإنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتي هذِه).
فبيَّن لهم شعائر الحج وخطبهم في عرفات ويوم النحر وأوسط أيام التشريق في خطب أبان فيها معالم الإسلام وأصول العقيدة وطاعة ولاة الأمر، وحق المسلم والمرأة والزوج والوالدين والأقربين وعظم حرمة الدماء والأموال، وحرمة الحرم وزمان الشعيرة وغيرها من الحقوق والمعاملات والعبادات والأحكام، وقرر استدارة الزمان قال عليه السلام :”ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنى عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان”.
وكانت وقفته بعرفة يوم الجمعة، ورجح بعضهم أن حجه في الربيع وقت الاعتدال من العام العاشر للهجرة.
ولعظم أمر شعيرة الحج، وهي ركن من أركان الإسلام وما أبانه عليه السلام من مناسكها ومبادئ الدين، كرر خطبه وبث وصاياه وأسمع الله الناس صوته، وهم في منازلهم بمنى ففي الحديث: “خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنى ففتحت أسماعنا حتى كنّا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا”. وذلك ليسمع الحاضر ويعلم الغائب ما استشهد ربه على أمته من أمر التبليغ والعلم، وقد أكمل الله لهم دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الاسلام دينًا فلا يرتدوا بعده كفارًا، فتناقلوها ورووها جيلًا بعد جيل سنة محمدية وصراطًا مستقيمًا.
ولا ريب أن حجاج بيت الله الحرام، وهم يودعون بيت الله والديار المقدسة قد عادوا إلى بلدانهم وألسنتهم تلهج بالشكر لله أن مكنهم من أداء حجهم في يسر وأمان، راجين أن يكون الله قد قبل حجهم وأثابهم بالمغفرة والفوز بالجنة والعتق من النار، وقد أتوه شعثًا غبرًا من كل فج عميق يبتغون رحمته وعظيم فضله، وقلوبهم عامرة بالتقدير لجهود المملكة المشهورة المشكورة في خدمة الحرمين والحجاج والزوار والمعتمرين والعاكفين والركع السجود، ولكل مواطن ومقيم قام على خدمتهم وأحسن استقبالهم ومعاملتهم، وأكرم وفادتهم وأعانهم على نسكهم، وكان أنموذجًا حسنًا لأهل بلاد الحرمين.
* أستاذ كرسي الملك سلمان بن عبد العزيز لدراسات تاريخ مكة المكرمة – بجامعة أم القرى