زيارة “بايدن” للسعودية يعتبر يومًا لتصحيح المسار الدبلوماسي الأمريكي بعد مرحلة من الغموض في التعامل مع الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة السعودية، إذا كانت هناك حاجة سعودية للولايات المتحدة، لكن حاجة الولايات المتحدة للسعودية أكبر من حاجة السعودية للولايات المتحدة، بعد مرحلة يمكن تسميتها بالقمار السياسي.
استبق “بايدن” زيارته للسعودية بتقديم عربون صداقة برفع الحظر عن كل الأسلحة الفتاكة التي طلبتها السعودية، أهمها حصول السعودية على منظومة الدفاع الجوي “ايرن ين” التي تغير قواعد اللعبة اقتصاديًا وعسكريًا؛ لأنها رخيصة جدًا قادرة على إسقاط كل المسيرات بشعاع الحديد الليزري، أيضًا موافقة أمريكا ببيع السعودية صواريخ ثاد في 2023 بقيمة 13 مليار دولار، اتفقت مع شركة لوهيد مارتن بترقية تلك الرادارات برادارات جديدة لم تحصل عليها حتى إسرائيل، ب44 منصة إطلاق كل منصة تحتوي على 7 صواريخ بإجمالي 358 صاروخًا جاهزة للإطلاق تشتبك خارج الغلاف الجوي بارتفاع 20 كيلو متر، وبمدى صواريخ 160 كيلو متر إلى 200 كيلو متر؛ بذلك قدمت أمريكا حماية كاملة للأراضي السعودية من كافة التهديدات سواء من المسيرات أو من الصواريخ البالستية.
أمريكا أمام تحول باتجاه تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع السعودية، وعلى غرار ترامب يشارك “بايدن” في القمة الخليجية الموسعة التي تضم مصر والأردن والعراق، تستضيفها مدينة جدة بغية الوصول إلى تغيرات على مستوى الشرق الأوسط برمته التي لها صلة مباشرة بالعالم بأسره فيما يتعلق بالأمن الغذائي والطاقة واليمن وإيران، ومناقشة الأمن الإقليمي، ودعم حل الدولتين، ومواجهة التهديدات المشتركة، بما فيها التي تشكلها إيران، من أجل مرحلة جديدة تقودها رؤية المملكة 2030 تتضمن جهود التكامل لدعم الاستقرار والازدهار الإقليمي؛ بالإضافة إلى تعزيز المصالح المشتركة الأخرى.
وفي نفس الوقت يرى مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان أن رحلة “بايدن” للشرق الأوسط مهمة للغاية، وتعزز الدور الأمريكي الحيوي في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية لخلق منطقة أكثر سلامًا واستقرارًا تعود بالفائدة على الأمن القومي الأمريكي والمصالح الأمريكية لسنوات آتية، ويرى سوليفان أن الزيارة تهدف إلى تقليل الحروب والإرهاب، إضافة إلى معالجة أمن الطاقة.
في الوقت الذي تؤدي فيه حرب روسيا ضد اضطراب أسواق الطاقة العالمية التي عرقلت مسيرة تصفير الانبعاثات، بعدما فشلت أمريكا في تحقيق أمن الطاقة وانخفضت احتياطياتها إلى 38.8 مليار برميل فقط، بينما الشرق الأوسط ارتفعت احتياطياته من 61 في المائة عام 2007 إلى أكثر من 65 في المائة.
تغير سياسة الولايات المتحدة من سياسة خارجية تعتمد على مثاليات أخلاقية إلى سياسة واقعية وموضوعية تدرك أهمية السعودية الذي يصب في صالح الولايات المتحدة أولًا لأنه يعيد كثيرًا من توازن دورها وقدرتها على بناء تحالفات في عالم مضطرب تحاصره استحقاقات وجودية، وبشكل خاص حول مستقبل الأمن، وبشكل خاص في أمن الطاقة والصحة والغذاء، لكن الزيارة بالنسبة للسعودية تمثل انتصارًا سياسيًا كبيرًا خصوصًا لولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي فشلت كل المحاولات في ابتزاز السعودية عبر ملفات مثالية، ولكن كانت إدارة الأمير محمد بن سلمان الذي ورث الدبلوماسية من تاريخ الدولة السعودية بكل هدوء ورصانة من أجل تعزيز مصالح بلده التي يقودها نحو رؤية تنموية إصلاحية شاملة طموحة ليست مقتصرة على السعودية فقط بل تشمل المنطقة، وتركز على المصالح الدولية المشتركة، وتعزيز العلاقات مع كل الأقطاب الرئيسية في العالم.
وعند حديث ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لمجلة ذي أتلانتيك تحدث بلغة المصالح المشتركة بعيدًا عن لغة العنتريات، واعتبر أن السعودية تقيم علاقات مع جميع الأقطاب الرئيسية في العالم، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية الذي أشاد بعظمتها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، ووصف الأمير محمد بن سلمان أمريكا بالحليف المحتمل، وهي رسالة إذا رفضت أمريكا أن تكون حليفًا للسعودية، فهناك حلفاء آخرون في العالم، رغم ذلك لن تقبل السعودية أن تكون بين أمريكا والصين، بل تتعامل مع الجميع كشركاء، ولن تقبل أن تكون في حرب باردة بين البلدين، ولن تقبل أن تكون علاقتها بهذه الصورة، بل تتجه السعودية نحو تنويع شراكاتها وصون موقعها في العلاقات الدولية.
تعتبر السعودية في الملف اليمني الذي تركز عليه أمريكا أن الحرب لم تكن إلا حربًا اضطرارية وتود إنهاءها، ولا زالت إيران تدعم الحوثيين وقبل أيام من زيارة “بايدن” للسعودية كشفت البحرية البريطانية أن إحدى السفن الإيرانية الحربية تحمل أسلحة موجهة للحوثيين ضبطتها البحرية البريطانية، ووجدت فيها صواريخ أرض جو، ومحركات لصواريخ كروز من طراز 351 الذي يبلغ مداه ألف كيلو متر تستخدمها الجماعة الإرهابية الحوثية ضد استهداف السعودية والإمارات، لذلك تحتاج السعودية من الولايات المتحدة أن تتفهم أن الأزمة في اليمن الإنسانية تسبب فيها الدور الإيراني.
إيران مرتبكة من تلك الزيارة وعودة العلاقات السعودية الأمريكية، جعلها تحذر “بايدن” من مواصلة الضغط عليها، وأنها تكرر أخطاء ترامب، وكذلك عن أخطائها في أوكرانيا، وأنها تنتقد تشكيلها لتحالف إقليمي ضدها في الشرق الأوسط، وتناقض رغبتها المعلنة في إحياء الاتفاق النووي، وهو تحول لم تتوقعه إيران، وكانت تراهن كثيرًا على إدارة “بايدن” التي أرادت عزل السعودية، والتقرب منها، ولكنها لم تستثمر تلك الفرصة بسبب الضغط السعودي الذي يعتبر نجاحًا سعوديًا مقابل الفشل الإيراني.
ولا زالت إيران تراهن عن الدفاع عن مصالح المنطقة المزعومة لمواجهة مؤامرات تهدف لزعزعة استقرارها، داعية دول المنطقة للحذر من أي مخططات أمريكية إسرائيلية ترمي لزعزعة الأمن والاستقرار، ما يعني أن إيران لا زالت مستمرة في نهجها ولم تستثمر تلك التغيرات والحوار الذي تجريه السعودية معها للتخلي عن تهديد أمن السعودية في اليمن، وأن السعودية تعتبر أمنها في اليمن خطًا أحمر، ولن تتنازل عنه بأي مقايضات.
تخلى “بايدن” عن توجه أوباما ولن يعود له نهائيًا في مغازلة إيران بعدما تأكد للولايات المتحدة أن إيران بعد الاتفاق النووي عام 2015 لم تتحول إلى دولة مسالمة بل وسعت من عملياتها العسكرية ونشر الفوضى في المنطقة مستثمرة الأموال التي تم الإفراج عنها تقدر بنحو 120 مليار دولار.
أدركت إدارة “بايدن” أهمية السعودية على عكس ما كان يعتقده أوباما أن النفط الصخري يحقق لها الاستقلال النفطي، وأنها لا تحتاج إلى نفط الشرق الأوسط، وزيادة أهمية المنطقة في المنافسة بينها وبين الصين، وجاءت صدمة الحرب في أوكرانيا إدراك حقيقة أن السعودية هي مفتاح الطاقة في العالم، وأنها أهم ممر استراتيجي لنفط الشرق الأوسط.
فاليوم إدارة “بايدن” أجبرت الرئيس على أن يكون واقعيًا في علاقته مع السعودية، رغم التيارات التي تريد دفعه بالاتجاه المعادي للسعودية.
Dr_mahboob1@hotmail.com