في الأسبوع الماضي، كم مرة حسيّت بالملل يحيط بك، يطوق عنقك، ويغلق أصابعه بإحكام حول رقبتك ببطء وإحكام؟ ماذا كانت ردة فعلك؟ دخلت تويتر؟ يوتيوب؟ أي شيء حتى تهرب من هذا الإحساس الساحق باللا شيء، صح؟
هُناك مشاعر كثيرة تجعلنا نهرب إلى هواتفنا أو أي نشاط آخر: القلق، الغضب، الحزن، إلا أن برأيي الشعور الأشد خطورة هو الملل.
الملل شعور إنساني كأي شعور آخر، تكمن أهميته في علاقته الوطيدة بالإبداع، فالملل من أشهر أبواب العقل المولِجة إلى الأفكار الإبداعية النضرة.
ما أخشاه هو أننا بإقصائنا للملل -بمساعدة هواتفنا- نحن في الحقيقة، نقصي الإبداع. أو على الأقل، نقصي أشهر الطرق إليه.
كيف نُقصي الملل؟
تقول “مانوش زومورودي” في حديث “تيد تاك” أن تركيزنا يتبدّل من موضوع لآخر كل 45 ثانية في المتوسط.
مستوعب؟! تركيزنا في المتوسط لا يصل لدقيقة حتى!
(هذه المعلومة تشمل جميع الأعمار، حجة “هذا الجيل الجديد” لن تنفع).
وتحويل التركيز من موضوع لآخر ليس مجانيًا، فكل مرة ينتقل فيها الدماغ من تركيزٍ لتركيز يصرف سائل الجلوكوز، وهذا السائل له حد.
هل تعتقد أن الشخص الذي يحوّل اهتمامه كل 45 ثانية لموضوع معيّن يملك وقتًا للملل؟ هكذا نقصيه.
الثمن
في تجربةٍ اجتماعية توصّل العلماء إلى نجاعة الملل في توليد الإبداع، بعد أن أخذوا مجموعة عشوائية من الناس، وجعلوا نصفهم يقومون بعمليات مملة ثم طلبوا منهم القيام بأعمال إبداعية، فوجدوا المجموعة التي قضت وقتها “طفشانة” قبل المهمة أكثر إبداعًا.
أيضًا، هُناك سبب لارتباط الأفكار الإبداعية بالأعمال الروتينية مثل: المشي، والاستحمام، وغسيل الصحون، وكنس البيت. فالأعمال الروتينية توصلنا إلى أماكن سرية في أدمغتنا العجيبة لا نستطيع الولوج إليها لو حاولنا بوعينا.
الملل ≠ الكسل
الاستلقاء أمام التلفاز، وتقليب الهاتف كل 10 دقائق قد يظهر كخليط من الملل والكسل، وقد يكون كذلك. إلا أن ما نعنيه بالملل شيئًا آخر كليًا، فالملل هُنا أقرب إلى التأمل، أقرب إلى الجلوس على أريكة والتحديق في الحائط دون التفوه بكلمة، وترك عقلك الساحر يتجول في اللا مألوف. لأوضح النقطة أكثر، دعني أضرب مثالًا:
في العام 1990 ميلادية، ركبت كاتبة مغمورة قطارًا عائدًا إلى لندن، وبينما جلست تحدّق في قفى الشخص الجالس أمامها قفز في رأسها تصوّر عن صبيٍ مهذّب وفضولي في مقتبل العمر. وكجميع لحظات الإلهام، بدأ جلدها يقشعر ودماغها يأن في توقٍ عظيم لتبدأ بكتابة قصة الصبي، لكنها لم تملك قلمًا وخجلها حال بينها وبين طلبه من أحد الركاب؛ لتحول هذه الصورة العشوائية للصبي إلى قصة.
تقول الكاتبة: إن هذا أفضل شيء حصل لها، لماذا؟
لأن رحلة القطار الرتيبة التي استغرقت أربع ساعات بلا ورقة أو قلم، سمحت لها بالسرحان في تفكيرها، لأنها ببساطة لم تملك خيارًا آخر، فأكملت مخطط الحبكة لقصة سلسلتها كاملةً.
اسم الكاتبة جي كي رولنق، كاتبة سلسلة هاري بوتر أعلى سلسلة مبيعًا في تاريخ الروايات (500 مليون نسخة).
ملل أم أحلام يقظة
يعترض قائل “ما ساعد رولنق في كتابة ما كتبته هو تأمله في عقلها وليس الملل” وهنا أصاب، ولكنه ضل الجواب.
يقول الطبيب النفسي جون ايستوود مؤلف كتاب خارج جمجمتي: نفسية الملل “عندما نشعر بالملل، ولأن الشعور غير مريح، فإن عقولنا تتحفز لتبحث عن شيء آخر -ليسليها-. وفي هذا الفراغ هُناك فرصة حقيقية لنجد شيئًا جديدًا. كمعرفة ما يهمنا وما نحن شغوفين به. أظن أن في هذا البحث يكمن مصدر الإبداع”.
الملل وحده ليس ما يجلب الإبداع، لكنه أشهر طريق يُفضي إليه.
الملل والكتابة
للكاتب البريطاني نيل جايمان عادةٌ رائعة، وهي أنه يجلس على كرسي الكتابة وبيده قلمه وأمامه ورقته، ويسمح لنفسه بعملين: إما الكتابة، وإما الجلوس دون فعل أي شيء. مسموح له ألا يكتب، مقابل ألا يفعل شيئًا على الإطلاق.
يقول عن هذه العادة: “بعد عدة أيام، أصبحت أرى الكتابة مثيرة أكثر من فعل لا شيء”.
وتؤكد أجاثا كريستي -البريطانية أيضًا- ارتباط شعور الملل بفعل الكتابة بقولها: “لا شيء يجعلك تكتب كالملل”.
ما أريد قوله للمبدعين، وخصوصًا الكُتّاب: لا تخشَ الملل، ولا تهرب منه، ولا تكدّس يومك فتقضي على إبداعك. الملل أعظم أصدقائك، ومنفذٌ عظيم لسبر أغوار عقلك. وتيرتنا اليوم سريعة سرعةٌ تكسر الأرقاب؛ لذا الجلوس وفعل لا شيء ليس حلًا باطلًا، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالأعمال الإبداعية.