عام

موطن رضاعة النبي في سراة بني سعد

في ظل التباين عند العلماء والباحثين في تحديد أرض حليمة السعدية، وموطن رضاعة النبي ونشأته في سراة بني سعد؛ فقد حصرت تقريبًا أكثر من ١٥ موقعًاعن ديار قوم حليمة بعضها في مكة المكرمة وما حولها من مختلف الجهات؛ حيث يقول بعضهم: إن موطن رضاعة النبي في منى، وهناك من قال: إن رضاعته بحي جرول (وادي طوى)، وهناك من قال في الشميسي (الحديبية) إلى آخره.
كما أشار البعض إلى أن موطن حليمة السعدية في ميقات السعدية جنوب مكة على بعد حوالي ٩٠ كم، وأشار آخرون إلى ديار بني سعد بين عسفان والمدينة في ناحية الكامل وخليص، وهناك من قال في يثرب وأن وفاة حليمة وقبرها هناك بينما حدّد بعض الباحثين موطن حليمة بين مكة والطائف في ديار هذيل في وادي نخلة، وهناك من قال: إنها في السيل الكبير (قرن المنازل)، وهناك من قال بجانب سوق ذي المجاز، وهناك من ذكر أن رضاعة النبي كانت في جنوب الطائف في نواحي وادي ليه وآخر الدراسات حددت موطن حليمة السعدية ورضاعة النبي في شمال الطائف في أرض أوطاس.
وجميع هذه الأقوال ضعيفة، وليس لها قيمة بل إنها شككت في المسلمات التاريخية والمواقع الأثرية الثابتة كموطن حليمة السعدية في سراة بني سعد المعلوم بالتوارث عند الأهالي عبر الزمن؛ حيث تمت رضاعة النبي في جنوب الطائف، وعاش عند مرضعته حليمة ٤ سنوات، ولعل الشواهد والقرائن التي تؤكد ذلك ما يلي:
١- ظاهرة الارتفاع
ارتبطت المرتفعات الجبلية بحياة الأنبياء؛ وخاصة نبينا محمد كما في حادثة نزول الوحي؛ حيث نزل عليه في جبل حراء واختبائه في جبل ثور يوم الهجرة، وغيرها من المواقف والأحداث.
ومما يؤكد ذلك أنه ورد أكثر من نص يفهم منه أن رضاعة النبي تمت في منطقة عالية، ومن ذلك قول أمه آمنة حينما عاد النبي لها مع حليمة:
(أعيذه بالله ذي الجلال من شر ما مر على الجبال)
وأيضًا النص عن حليمة (فنزلت به التي ترضعه إلى سوق عكاظ) دلالة على نشأته بأرض مرتفعة، وأيضًا (فنزلت به إلى أمه آمنة)؛ فالنزول هنا يقتضي الهبوط من مكان مرتفع كالسراة إلى آخر منخفض كمكة.
وأيضًا النص الذي ورد عن امرأة سعدية تقول فيه للنبي عن أخوته من الرضاعة (لقد كان لهم موئل فذهب) والموئل هو المرتفع والملجأ من المطر أي ليس في منخفض معرض للخطر كما هو في ذنب (أسفل) أوطاس.

وفي كلمة (فذهب) دليل على أنهم كانوا يسكنون في موقع ثابت وأنهم أهل حاضرة (قرية) بيد أنهم انتقلوا منها، وتفرقوا إلى أوطاس وغيرها، ويصادق ذلك قول الشاعر السعدي من بني عصيمة يوم حنين:
وامنن على بيضة قد عاقها قدر × مشتت شملها في دهرها غير
وكذلك يدل وجود الشعاب التي يرعى بها رعيان بني سعد وفق ما ورد في النصوص على وجود الجبال وسكناهم بها وأن رعيهم رعي ثابت وليس رعيًا صحراويًا.

٢- لقب الدهاسين الذي لا يزال يطلق على قرية الشوحطة بسراة بني سعد من حيث معناه يعني الإعجاز، وسعد بن بكر معدودين من إعجاز هوازن وأيضًا مفرد هذا اللقب هو(دهاس)، ويحمله اسم الدهسة من قبيلة عتيبة اليوم وهم قطعًا من سعد بن بكر.
فضلًا عن أن حليمة عرفت بلقب القطوية من القطا، وهو العجز في اللغة دلالة على أنها من سكان قرية الشوحطة المعروفة باسم الدهاسين.
٣- الحديث الذي ورد في صحيح ابن حبان وغيره وأفاد فيه وحشي بن حرب أنه ناول عبيدالله بن عدي الهاشمي امرأة سعدية فأرضعته بذي طوى، وهو وادي الحمضة في سراة بني سعد اليوم بدليل قول الرداعي الخولاني في شعره:
ذي طوى ذو الحمض والسباخ قاربة للورد من كلاخ
ويوجد في أعلاه بئر طوى كما هي تسميتها اليوم وأصلها حسو كما هو الأصل في مياه بني سعد، وقد وقفت عليها فوجدتها بالفعل حسوا، وأشار أحد الباحثين إلى أنها هي الماء الوحيدة الحلوة في تلك الجهة، وهي لا تبعد عن موقع بيت حليمة سوى ٢ كم.
٤- أن نص الإمام الحربي عن رضاعة النبي في أوطاس كما في هذا النص (ويقال أن النبي رضع في تلك الناحية) مبني على الظن، وهناك قاعدة شرعية تقول الدليل الذي تطرق إليه الاحتمال لا يصح به الاستدلال.
بينما هناك في المقابل قاعدة تقول: القدم يترك على قدمه وغيرها من القواعد الشرعية التي تشير إلى أهمية العرف والتواتر وغيرها في تعيين المواضع التاريخية على أرض الواقع.
٥- جاء في النص عند المقريزي أن نساء بني سعد مرّرن بحي من هذيل (فمررن بسنح من هذيل على عراف كبير)، والسنح قرية في أعلى رأس وادي وج في جنوب غرب الطايف كانت لقبيلة هذيل واليوم لقريش، وفي هذا دلالة على أن موطن رضاعة النبي في سراة بني سعد، ولو كان في غير تلك الجهة لما سلكت حليمة، ومن معها ذلك الاتجاه وجئن إلى هذه القرية خاصة وأن طريق المشاعر بمكة باتجاه وادي نعمان كان هو طريق أهل السراة، ويرى العالم محمد هيكل أن حليمة أخذت النبي طفلًا، وسارت به عبر طريق نعمان إلى الطائف.
وأيضًا مرافقة حليمة للأحباش في الطريق من مكة باتجاه ديارها كما جاء في النصوص فيه إشارة إلى أن مسكنها في جنوب الطائف؛ لأن الأحباش كانوا يسلكون طرق اليمن من جنوب مكة وجنوبها الشرقي، وليس من شمال الطائف عبر وادي نخلة الشامية نحو أوطاس وتلك الجهات.
٦- ورد في المصادر أن هوازن في نجد مما يلي اليمن أي في جنوب الطائف وجنوبه الشرقي، وليس جهة شماله؛ حيث تقول الشيماء للنبي:
أتننسى بنجد رضاع وعهدي × وأنت رسول إلى العالم

قال أحد العلماء ونجد إذا أطلق (أي إذا لم يكن مضافًا) انصرف إلى نجد الحجاز، والعرب تسمي الحجاز نجدًا وجلسا، والجلس هو الجبل إذا كان صالحًا للسكن والحجاز المنجد داخل في النجد في قول الإمام الهجري.
ويقول الهمداني والنجد ما انجد عن السراة، وظهر من رؤوسها مشرقًا في حالة استواء دون ما ينحدر إلى العروض (الأراضي المنخفضة) كما هو في تسمية ريعان النجد اليوم بجوار قرية حليمة.
٧- رهاط إحدى قرى سعد بن بكر قال عنها العلماء موضع نجدي بالحجاز لثقيف من بلاد بني هلال، وقد وردت في رسم الفرع والسراة كلها فراع كالتي تقابل بيت حليمة كما وردت رهاط في رسم شمنصير وأصله شنصير، وهذا الجبل موجود بجوار قرية حليمة باسمه المصغّر شنيصر.
٨- دلالة اجتماعية تتمثّل في وجود آل العرابي من بني هاشم في سراة بني سعد وميسان حتى اليوم وارتباطهم معهم برباط المجاورة والمصاهرة بل هناك من عرف منهم بلقب العرابي الحارثي الذي يتوافق مع هذا النص (سعد بن بكر رجال بني الحارث) ألا يدل هذا على مدى العلاقة المتجذرة بين بني سعد وقريش لا سيما أن قريش كانت تصيّف بوادي بسل من السراة جنوب الطائف في الجاهلية وصدر الإسلام.
٩ – قرية الحديبية التي جاء أن حليمة السعدية وقومها يسكنون بها وفي أطرافها لم تكن هي حديبية مكة، وإنما الراجح أنها في السراة لأنه توجد أسماء عدّة باسم الحدباء والحديب والحدب في السراة.
بل يوجد اسم الحدبية كعلم على الطرف الشمالي لقرية الشوحطة التي يتطابق تكوينها الجغرافي مع مفهوم الحدباء عند الجغرافيين من حيث كونها تجويف غليظ في وسطه ارتفاع.
١٠- ما يذكره الأهالي من وجود زوار يأتون لموقع بيت حليمة ركوبًا على ظهور الجمال في القرن الماضي.
١١- شهرة بني سعد أخوال النبي بالفصاحة، والثابت أن موطن الفصاحة والبلاغة هي السراة بحسب النصوص.
(أفصح الناس أهل السروات) (وبها بقاع الفصاحة والصباحة)، وكذلك (أفصح الناس سافلة العالية وعالية السافلة يعني عجز هوازن)، والعالية هنا عالية الحجاز جنوب الطائف وليس جهة المدينة؛ لأن إعجاز هوازن لا تسكنها.
١٢ – مفهوم الحاضرة في اللغة يتوافق مع مفهوم القرية والسراة كلها قرى قال عنها علماء التفسير إنها هي المقصودة في قوله تعالى ((قرى ظاهرة)) فضلًا عن أنه ورد في المصادر أن سعد بن بكر يمتلكون قرى كقرية رهاط وقرية الحديبية وغيرها دلالة على أنهم أهل حاضرة مستقرون في أرضهم، وليسوا أهل انتقال وترحال بحسب هذه النص (حتى قدمنا منازلنا من حاضر منازل بني سعد) وغيره من النصوص.
فأعتقد مثل هذه الشواهد والقرائن تجلي الحقيقة وتربط الماضي بالحاضر، ونتعرف من خلالها على أهمية الأماكن التاريخية المرتبطة بالسيرة النبوية؛ وذلك للاهتمام بها وتطويرها من قبل الجهات المسؤولة.
واستكشاف المعالم الصحيحة المرتبطة برضاعة النبي وأحداث التاريخ ومنع الجدل واللغط في مثل هذه الدراسة.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى