أثارت زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، يوم الثلاثاء الموافق 2 أغسطس، إلى تايوان، مخاوف عالمية عابرة للحدود، في الوقت الذي يعاني فيه العالم أجمع تداعيات الحرب الأوكرانية، جاءت زيارتها إلى تايوان لتصب الزيت على النار، لذلك واجهت الكثير من الانتقادات وغضب ليس الصين فقط، بل الكثير من دول العالم والمسؤولين بما فيها من داخل الولايات المتحدة نفسها. وقد وصف السفير الأمريكي السابق لدى الصين، ماكس بوكوس، زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان، أنها “غير ضرورية وغير مسؤولة”، فالهدف من السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الصين هو تقليل التوتر وليس تصعيده، بالإضافة أنه لا يوجد سبب يدعوها للذهاب، فهي حقا إشكالية.
ثم استرسل السفير وقال سبب ذهابها غير شفاف وهي تستخدم خطابًا استفزازيًا للغاية تجاه الصين وتنتقدها بشدة. كما ذكر السفير أنه ستكون هناك عواقب ويأمل ألا تكون وخيمة، لكن بطبيعة الحال ستكون هناك عواقب لزيارتها. وقد تنبأ أن هذه العواقب قد تكون عملًا عسكريًا بالاستيلاء على الجزيرة الصغيرة، أو قد يكون شيئًا أكثر جوهرية، فاحتمال تقرر الصين قطع معاهداتها مع أمريكا وتصطف مع روسيا بدعمها عسكريًا في حربها ضد أوكرانيا. وبالفعل هذا الذي حدث، فقد أعلنت الصين مؤخرًا عن نهاية التعاون مع الولايات المتحدة بشأن المسائل العسكرية، واجتماعات الدفاع، والمكالمات مع القادة، واستشارات الأمن البحري، ومحادثات تغير المناخ، والتعاون في مكافحة المخدرات، والهجرة غير الشرعية.
كما أضاف أن ادعاء بيلوسي حول دعم الديمقراطية في تايوان يتعارض مع حقيقة أنها تقترب من تجاوز خط التدخل باستقلال تايوان وهذه هي المشكلة الحقيقية مع الصين، لذلك رفضت الصين الزيارة وحذرت منها بشدة واعتبرته استفزازًا سياسيًا. كما أن بيلوسي ليست الرئيسة وهي غير معنية بشأن السياسة الخارجية العالمية، فهي عضو في الكونجرس، ومن خلال زيارتها جعلت الرئيس يبدو ضعيفًا، فجعلته في صورة إما أنه غير قادر على القيام بمهامه أو ربما قال لها ألا تذهب وذهبت على أي حال. فهنا الصين استشعرت ضعف الرئيس والإدارة وأمام دول قوية عليك أن تبدو قويًا؛ وذلك بعدم اتخاذ إجراءات سخيفة.
إن ذهاب بيلوسي بمخالفة الرئيس بايدن والمضي قدمًا في زيارتها إلى تايوان، أكّد عليه الكاتب والمحلل الأمريكي، توماس فريدمان، في مقالته في صحيفة “نيويورك تايمز”، الذي كتب فيها أن ذهاب بيلوسي مخالفة لرغبة الرئيس يعتبر أمرًا طائشًا وغير مسؤول على الإطلاق قد يؤدي إلى انزلاق الولايات المتحدة في مواجهة مسلحة مع الصين وربما مع روسيا أيضًا، وكلتاهما دولة نووية. لذلك استهجن فريدمان زيارة بيلوسي وتعمدها استفزاز الصين في هذا التوقيت السيئ. فالحرب، كما أشار إليه، في أوكرانيا “لا تزال دائرة، وهنالك الكثير من القلق والشكوك التي تساور المسؤولين الأمريكيين حول القيادة الأوكرانية، وتدهور كبير في الثقة بين البيت الأبيض والرئيس زيلينسكي، ورائحة فساد تزكم الأنوف في كييف. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن بيلوسي تخاطر بالدخول في صراع مع الصين، بسبب زيارة عبثية لن تفيد تايوان في شيء.”
وبالتالي، التحليلات التي تقول: إن زيارة بيلوسي قد تخدم الديمقراطيين الذين يعانون من تراجع شعبيتهم وسط توقعات بخسارتهم في الانتخابات النصفية في نوفمبر المقبل، ليست صحيحة في واقع الأمر، لأنها أظهرت للعالم بأجمعه أن سياسية الحزب الديمقراطي متهورة وتتسم بعدم المسؤولية؛ حيث تركز على مصالح الحزب وفوزه في الانتخابات على حساب السلم والأمن العالمي، بالإضافة إلى أن الزيارة برزت ضعف الرئيس وإدارته، كون عضوة في الكونجرس ذهبت لهذه الزيارة بالرغم من عدم موافقة الرئيس وكذلك الإدارة لم تعارض الزيارة بحزم، ولكنها كانت تبدو غير متشجعة لها خاصة في هذه المرحلة الحرجة، وهنا أيضًا يظهر تذبذب وتردد الإدارة. إضافة إلى ذلك، أضرت بيلوسي بسمعتها وأثبتت للكثيرين أن خطواتها طائشة وكل ما يعنيها إرثها السياسي وإرضاء غرورها غير مكترثة بعواقب قراراتها.
إن من أخطر تداعيات زيارة بيلوسي إلى تايوان أنها شوهت صورة أمريكا بطريقة واضحة للعيان. هذه الصورة التي رسمتها أمريكا لنفسها طيلة العقود الماضية أنها هي الدولة، التي تنشر السلام وأعداءها هم الذين يشكلون خطرًا على العالم. هذه الصورة الوردية تلاشت تدريجيًا مع الوقت بسبب السياسات الخارجية الأمريكية الخاطئة وتحديدًا منذ 2008، وزيارة بيلوسي نسفتها بالكامل وأثبتت أمام الرأي العام العالمي أن أمريكا، للأسف، بلطجي العالم تريد خلق الفوضى لكل منافس لها بدل السعي للتطور والتعاون المشترك، وهذه علامة ضعف واضحة.
وبهذه الطريقة ستفقد الولايات المتحدة نفوذها واحترامها لدى دول العالم، وبالتأكيد ستفقد ثقة حلفائها من خلال هذه التصرفات غير المسؤولة. وهذا ما جعل وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، يصرح بكل ثقة أن هناك أكثر من 100 دولة تدعم الصين و7 فقط تعارض الصين. إن من مميزات شعوب ومسؤولي شرق آسيا الأدب في الحوار، لكن مع هذه الزيارة، لأول مرة نرى تلاسنًا غير مسبوق من المسؤولين الصينيين، مما يوحي أن أمريكا فقدت الكثير من احترامها لدى الدول، فقد كان هناك هجوم قاسٍ من وزير الخارجية الصيني ضد زيارة بيلوسي وقد ذكر، “الذين يلعبون بالنار لن تكون نهايتهم جيدة.. ومن يسيء إلى الصين يجب أن يعاقب.” كذلك المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هوا تشون ينغ، تابعت نفس الهجوم في تغريدتها، “إذا كانت الولايات المتحدة بالفعل دولة مسؤولة، كان عليها أن تمنع عدوان بيلوسي غير المسؤول في وقت مبكر، وكان ينبغي أن تزيل العديد من السفن العسكرية والطائرات التي نشرتها على مقربة من الصين.”
إن بداية أفول قوة أي دولة عظمى في العالم هو ليس بفقدانها للقوة العسكرية والاقتصادية، بل بفقدان الهيبة والاحترام، وبالتالي هذا سيفقدها نفوذها. إنه لمحزن أن نرى هذا التخبط في السياسة الأمريكية، لذا على هؤلاء السياسيين من الحزبين مراجعة سياساتهم الخاطئة في الداخل والتي كما نراها تنعكس بشكل واضح في السياسة الخارجية، وأبرز تلك السياسات السيئة: الاستقطاب بين الحزبين، الفساد والطمع في المال والسلطة، وتقديم المصالح الحزبية على حساب مصلحة الوطن وصورة أمريكا عالميًا. إلى جانب ذلك، يجب على السياسيين المخضرمين ذوي الحكمة مثل السفير الأمريكي السابق لدى الصين أن يكون لهم تأثير أكبر لإنقاذ أمريكا من المتهورين الذين يريدون خطفها للهاوية.
0