لا شك أن البحث العلمي أحد أهم الطرق للمعرفة، وليس غريبًا القول إننا من خلال البحث العلمي نستكشف العالم وأسراره وطبيعة كل شيء من حولنا، وعلى سبيل المثال، نفهم كيف تؤثر أفعالنا في البيئة، كما يكسبنا البحث الاجتماعي فهمًا أعمق للناس، ولماذا هم يفعلون الأشياء التي يقومون بها. والأفضل من ذلك كله، أننا نثري كل حياتنا من خلال البحث العلمي بأحدث المعارف في مجالات الصحة والتغذية والتكنولوجيا والأعمال. ولا يخفى على أحد السباق المحموم من لدن الدول العظمى على نصيب أكبر في الأبحاث العلمية في كل التخصصات بلا استثناء حتى لقد أصبح البحث العلمي – سواء المتعلق بأبحاث الفضاء أو الطب أو الهندسة أو السلوك البشري – ميدانًا لسباق الدول في تصدر القوائم الدولية الأكثر إنتاجًا للمعرفة التي تقود العالم بأسره اليوم.
فعلى مستوى الدول يعزز البحث والتطوير مدى فعالية كل من المال العام ورأس المال البشري في الاقتصاد والعوائد التي يدرها على التنمية. ومع ذلك، فإن الاستثمار في البحث هو استثمار طويل الأجل لأي دولة. ومن المحتمل أن ترى أي دولة، تسعى لنيل مكانة اقتصادية، تأثيرًا مباشرًا قصير المدى وطويل المدى في الاقتصاد، وذلك مرهون بقدرة الاقتصاد الوطني على ترجمة نتائج البحث إلى منتجات وخدمات قابلة للتسويق على الصعيدين المحلي والدولي من خلال براءات الاختراع التي تسجل في مكتب براءات الاختراع الأمريكي. وفي هذا السياق، تعد الصين مثالًا رائعًا في هذه الناحية حيث نمت بسرعة هائلة على مدار العقدين الماضيين. على أن نمو البحث العلمي يجب أن يكون مدفوعًا بقدر هائل من رأس المال البشري الذي يتم استخدامه لتنمية الدول والمجتمعات من إنتاج العلم وتوفير تطبيقاته كذلك. وبعبارة مكثفة، البحث هو استثمار هام لأي دولة على أنه يجب أن يعمل الجزء الأكبر من الاقتصاد بشكل جيد قبل أن تتمكن الدول من جني الثمار على المدى البعيد.
وفي حديث سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن أهمية التركيز على البحث العلمي الذي ألقاه في العاشر من ذي الحجة 1443 هـ الموافق 30 يونيو 2022م والذي نشرته واس خارطةُ طريق واضحة في هذا الاتجاه. فقد أعلن صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس اللجنة العليا للبحث والتطوير والابتكار – حفظه الله – عن التطلُّعات والأولويات الوطنية للبحث والتطوير والابتكار في المملكة العربية السعودية للعقدين المُقبلين، والتي تستند إلى أربع أولويات رئيسة تتمثل في: صحة الإنسان، واستدامة البيئة والاحتياجات الأساسية، والريادة في الطاقة والصناعة، واقتصاديات المُستقبل، بما يُعزز من تنافسية المملكة عالميًا وريادتها؛ ويتماشى مع توجُّهات رؤية المملكة 2030 وتعزيز مكانتها كأكبر اقتصاد في منطقة الشرق الأوسط.
وفي هذا الإطار قال سمو ولي العهد في مستهل الإعلان عن التطلُّعات والأولويات الوطنية: “اعتمدنا تطلُّعات طموحة لقطاع البحث والتطوير والابتكار، لتصبح المملكة من رواد الابتكار في العالم، وسيصل الإنفاق السنوي على القطاع إلى 2.5% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2040، ليُسهم القطاع في تنمية وتنويع الاقتصاد الوطني من خلال إضافة 60 مليار ريال سعودي إلى الناتج المحلي الإجمالي في عام 2040، واستحداث آلاف الوظائف النوعية عالية القيمة في العلوم والتقنية والابتكار، بمشيئة الله”. هذه الرؤية الطموحة الواعدة تجعل الجامعات الحكومية أمام مسؤولية كبيرة يجب أن تضطلع بها، كيف لا ولديها سنوات من الخبرات في تقديم أبحاث علمية؟! وذلك يجعلنا مطمئنين من أن يكون لها دور جوهري في تطوير أنظمة أكاديمية متميزة وفعالة، وفي تمكين المملكة العربية السعودية من الانضمام إلى مجتمع المعرفة العالمي والمنافسة في اقتصادات المعرفة المتطورة عالميًا لا سيما والمملكة اليوم إحدى دول العشرين العظمى.
وفي حين أن رؤية المملكة 2030 تركز على هدف وصول أربع جامعات وطنية لمصاف أفضل 200 جامعة في العالم بحلول 2030 فالمأمول من الجامعات البحثية الوصول إلى أعلى المستويات في التصنيف العالمي بحثيًا. ولا بد أن نعمل بشكل مطرد على تحسين سمعتنا وقدرتنا التنافسية على الساحة الدولية بحثيًا. والجامعات بلا شك لديها كل الأدوات التي تجعل ذلك ممكنًا من خلال تمكين قيادات ترى في المقام الأول أهمية البحث العلمي وتبني سياسات واضحة نحو البحث والتطوير الذي تتبناه اليوم كبرى الشركات العالمية للوصول إلى ذات الهدف وهو الإنتاج المعرفي والتميز والريادة العالمية.
تجدر الإشارة هنا أن الرؤية الواعدة للمملكة العربية السعودية 2030 ركزت وبشكل أساسي على الإبداع والابتكار كون الابتكار أحد دعائم إنتاجية الاقتصاد. وكما هو معلوم فإن الإنتاجية هي أهم متغير في حساب الناتج الاقتصادي وهو متغير أكثر أهمية في حساب الناتج الفردي، وهو في النهاية أفضل مقياس منفرد لمدى جودة أداء الاقتصاد وإظهار القدرة الابتكارية في المجتمع. أخيرًا، تعتمد الثروة الإجمالية للاقتصاد في جزء كبير منه على إنتاجية الباحثين على المدى الطويل وهذا لا يقتصر فقط على البحث العلمي في العلوم الطبيعية، ولكنه يشمل البحوث الاجتماعية والإنسانية التي تمس بشكل كبير واقع المجتمع وتسهم في حل مشكلاته.
ومن أجل ضمان نمو وازدهار القطاع، جرت إعادة هيكلة قطاع البحث والتطوير والابتكار وتشكيل لجنة عليا برئاسة سمو ولي العهد للإشراف على القطاع وتحديد الأولويات والتطلعات الوطنية للبحث والتطوير والابتكار في المملكة، وإنشاء هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار التي ستعمل كممكِّن ومشرِّع ومنظِّم للقطاع، وستقوم بتطوير البرامج والمشاريع وتوزيع الميزانيات ومراقبة الأداء.
وتحقيقًا لهذه الطمُوحات الكُبرى التي أعلن عنها سمو ولي العهد، فإنه سيجري العمل على استقطاب أفضل المواهب الوطنية والعالمية، إضافة إلى تعزيز التعاون مع كُبرى مراكز البحث والشركات العالمية والقطاع غير الربحي والقطاع الخاص اللذين يُعدان شريكين أساسيين لقيادة البحث والتطوير وزيادة الاستثمار في القطاع. مبادرة البحث والتطوير هي إحدى مبادرات التحول الوطني لرؤية المملكة 2030، وهذه المبادرة تحتضنها وزارة التعليم، وخصصت لها ميزانية ضخمة تصل إلى 6 مليارات ريال، مبينًا أن هذه المبادرة ستكون معنية بالبحث العلمي وتطوير البحوث ذات العلاقة بالاقتصاد المعرفي. هذه المبادرة إحدى مبادرات التحول التي تهدف إلى تحويل هذه الأبحاث إلى منتج يسهم في نمو اقتصاد المملكة العربية السعودية بشكل خاص، والاقتصاد المعرفي بشكل عام .
سيكون البحث العلمي الأصيل مهمًا لأن كل الثمار القريبة المدى والبعيدة المدى الناتجة عن التحرر الاقتصادي قد جرى انتقاؤها. وبعد، ستظل البشرية بحاجة إلى البحث لمساعدة المجتمعات على ابتكار منتجات جديدة ومبتكرة، وليس مجرد نسخ مما أنتجه الشرق والغرب. الرؤية واضحة الهدف محددة الإطار ولدينا الأدوات ويبقى علينا آلية التنفيذ للدخول بقوة في المنافسة العالمية.
0