في هذه الليلة المُباركة ليلة الجمعة الموافق الحادي والعشرين من شهر محرم لعام أربعة وأربعين بعد الأربعمائة والألف من الهجرة النبوية توفي إلى رحمة الله الشيخ زايد بن أحمد الحارثي في مكة المكرمة عن عمر يناهز المائة عام قضاها في خدمة دينه ومليكه، ووطنه بأمانة ومحبة وإخلاص.
وكانت نشأته وتربيته في قرية “ميسان” بالطائف لوالدين معروفين بالصلاح والتقوى، وحسن التربية، وفي زمن كانت الدولة السعودية في بداية توحيدها المباركة، إنه من مدرسة المؤسس الملك عبد العزيز وأبنائه البررة الذين وفروا وشجعوا على العلم والتعليم والوسطية وحُسن الخلق، وقد نحت الشيخ زايد (أبو سعد) -رحمه الله- تاريخه ومجده من صخر؛ حيث صعوبة الحياة في ذلك الحين، وبين توفير أساسيات وضرورات المعيشة والحياة من معيشة له ولأسرته، وبين حرصه على العلم والتزوَّد منه؛ فتعلم تعلمًا ذاتيًا، ودرس على نخب من شيوخ الحرم المكي بعد أن ينتهي من طلب الرزق، ويقضي ساعات في الحرم في النهل من علوم القرآن والحديث والتفسير وعلم الفرائض وغيرها حتى حفظ وفهم الكثير من سور القرآن والأحاديث والمواريث، وكذلك علم التاريخ إلى أن استقطب من بعض المشايخ الفضلاء في المحاكم كاتبًا في عدة قرى ومدن معهم ثم ملازمًا لهم، وتعلَّم منهم ميدانيًا مالم يكن يتعلمه في المدرسة؛ فمع نباهته وذكائه وفطنته وسرعة بديهته ودافعيته المميزة، اكتسب الكثير من المحبة والقناعة والثقة ممن عمل معهم؛ فتدرج في سلم القضاء إلى أن أصبح رئيسًا للمحكمة المستعجلة في مكة المكرمة، وقد اتبع أسلوبًا في القضاء، يعد مدرسة لمن يعمل في هذا المجال؛ فقد كان الصلح بين المتخاصمين أسلوبًا مميزًا له في القضاء مع العدل والتزام النظام؛ فكسب محبة من عرفه، ومن تحاكم عنده.
ومن ملكات الشيخ زايد التي حباه الله إياها حُسن معشره ومجلسه وتوجيهاته وقدوته في سلوكه، وفي وفائه وولائه لله ثم لولي أمره ووطنه. مجالسه لا تمل وأحاديثه ينصت لها كل من يحضر مجلسه؛ فقد كان يأسر الجميع بفكاهته ومداخلاته وحسن منطقه الذي جمع فيه بين العامية وبين والرسمية؛ فقد أسر بأسلوبه وأحاديثه كافة الشرائح والمستويات. فقد كان قاضيًا وأديبًا، ومربيًا وشاعرًا، وشيخًا ومصلحًا اجتماعيًا يستحق بجدارة أن يفرد لقصة حياته ومآثره مجلدًا بل مجلدات يستفيد ويتعلم منها الأجيال؛ فهو من ذلك الرعيل الذي نحت إنجازاته ومجده من صخر.
عزائي للوطن وولاة الأمر الذين احتضنوا، ورعوا وقدّروا وللعلماء وطلبة العلم، وعزائي لنا نحن أقاربه ومحبيه وأسرته، ولا نملك إلا الدعاء بالرحمة والمغفرة للشيخ زايد بن أحمد الحارثي، وأسكنه فسيح جناته، وألهم الجميع الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أحسن الله عزاءكم وغفر الله لفضيلة الشيخ زايد بن أحمد الحارثي ، اسأل الله العظيم أن يرحمه رحمة الأبرار الصالحين ويجعل مثواه الفردوس الأعلى من الجنة ، وأن يلهم الجميع الصبر والسلوان ، إنا لله وإنا اليه راجعون . أخوكم د. زهير الكاظمي