إيوان مكة

الصرح الذي هوى…

في رثاء بيتنا القديم مسقط الرأس ومهد الطفولة، ومخزن الذكريات، الذي انهار بسبب تعاقب السنين وكثرة الأمطار..

إني أراك حزينةً يا دارُ
مذ غابَ عنكِ الأهلُ والزوارُ

الحزنُ هدَّكِ والسنينُ تطاولت
والحزن داءٌ كلُّه أضرارُ

مضت القرونُ وأنت فيها شامخٌ
كم عاشَ عندك صبيةٌ وكبارُ

أهلي وأجدادي وكلُّ أحبتي
قد كان حضنُك للجميع قرارُ

أفراحُهم، أتراحُهم، آمالُهم
في قلبِ قلبك تبتدي وتدار

في قلبِ قلبِك كم شهدت ولادةً
تأتي وترحلُ حولك الأعمارُ

وتقلباتُ الوقتِ كم دونتَها
أيامُ خوفٍ ما لهن قرارُ

كم قاستِ الأجيالُ من ويلاتها
منها شكى الأنذالُ والأحرارُ

الجوعُ والخوفُ البهيمُ وحالةٌ
الجار كم يشكو أذاه الجارُ…

يا حصنَنا، يا درانَا، يا بياتَنا
في سيرِنا تتحكمُ الأقدارُ..

نحنُ العبادُ وكلُّ شيءٍ فوقَها
يرعى الجميعَ الواحدُ القهارُ

ربٌ رحيمٌ واحدٌ متفردٌ
وهو الحليمُ القاهرُ الجبارُ

يا بيتَنا قد كنت عندي قلعةً
ما كنتُ أحسبُ أنها تنهارُ

لكنها بقلوبنا مبنيةٌ
أركانُها والأهلُ والأحجارُ

الذكرياتُ تعيشُ في أعماقِنا
ما مرَّ ليلٌ حالكٌ ونهارُ

كان العَشَاءُ يُعدُّ تحتَ عيونِنا
ومع الشروقِ يجيئُنا الإفطارُ

أما الغداءُ ففي المزارعِ حيثما
كنا، يجيء، وحولنا آثارُ…

للحرثِ أو للدمسِ أو لحصادِه
ومع المواشي ترقُصُ الأطيارُ

تتشابكُ الأصواتُ حولَ زروعِنا
كلبٌ وثورٌ جامحٌ وحمارُ

يا بيتنا في كلِّ ركنٍ قصةٌ
إيقاعُها: الأفراحُ والأكدارُ

هذا أبي والخالُ فوق (رُعُوشِنا)
يغشاهما نورُ التقى ووقَارُ..

يتحدثان بما يقررُ دينُنا
وبما يقولُ القائدُ المختارُ

وأرى أخي والأهلَ كلُّ باذلٌ
جهداً، ولا تغريهمُ الأعذار..

في بيتنا الشرقيِّ مهدُ ضيوفنا
وله بأعماقِ القلوبِ قرارُ

وله تراحيبٌ ووجهٌ مشرقٌ
وله القِرى الميسورُ والمقدارُ

وإذا (ذبحنا) جاء كلُّ كبارنا
في قرية فيها الوفاقُ شعارُ

الضيفُ ضيفهمُ وهذا بيتهم
والعيد حين يجيئُنا خطّارُ

ورواحلُ الأضيافِ تُكرمُ مثلهم
لتعينُهم في دربِهم إن ساروا

والمنتدى يوم الثلاثا ثابتٌ
من كلِّ ناحية لنا زوَّار

البدو أكثرُ من يشرِّفُ بيتنا
يتقربون السوقَ وهو مَنَارً

سوقُ الربوعِ وفيه بغيةُ بعضهم
يشرون ما يأتي به التجار

كم قصةٍ في المنتدى قد أوردت
وتجاربٌ مرآتها أشعارُ

يتجمعون على معاميلٍ بها
شايٌ وبنٌّ فاخر وبهارُ

والصوتُ تسمعُه وقد غنَّوا به
وتناغمت في لحنها الأوتار

والبعضُ إن غنى فصوتُ ربابةٍ
وكأنه في اللحنِ موسيقارُ

(والسِّفْلُ) فيه حلالُنا وعتادُنا
للزرعِ، أو إن أقبلت أسفارُ

يا بيتَنا لو طاحَ جدرُك لن يزل
في كلٍّ جزءٍ قد هوى تذكارُ…

ذكراك في أعماقِنا محفورةٌ
ما دامت الآصالُ والأسحارُ…

الرياض 24 صفر 1444هـ

أ.د.عبدالرزاق حمود الزهراني

أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام سابقًأ رئيس الجمعية السعودية لعلم الاجتماع سابقا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى