المقالات

الملك عبد العزيز فرض واقعا سياسيا على الإمبراطوريتين (البريطانية والعثمانية )

تم توحيد شبه الجزيرة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصبحت شبه جزيرة العرب منطلقا لنشر الإسلام خارج الجزيرة، وكانت الجزيرة العربية تحت حكم عهد الراشدين ثم الدولة الأموية فالعباسية إلى أن ضعفت الدولة العباسية، فتجرأ القرامطة على انتزاع الحجر الأسود بعد قتل جمع كبير من الحجاج في عام 908 الذي يوافق 317 هجري، واستمر الحجر الأسود لدى القرامطة 22 عاما في مقرهم في البحرين، ولحماية الحرمين الشريفين تم تشكيل قيادة من الهاشميين تتبع الدولة العباسية في عام 967 بدأت بإمارة جعفر بن محمد الحسني، وأصبحت الإمارة الهاشمية تتبع الدول التي مرت بعد الدولة العباسية الأيوبية، المماليك إلى أن أصبحت تابعة للدولة العثمانية لمجرد الحصول على شرعية دينية إلى أن تسلم الإمارة الشريف حسين آل عون في 1908.
تعتبر الدولة السعودية الأولى قامت في شبه الجزيرة العربية بعد انهيار الدولة العباسية على يد الأمام محمد بن سعود 1744- 1818 لتكوين وحدة سياسية تشمل حتى الحجاز بدلا من الكيانات السياسية الصغيرة، لكن ذلك لم يعجب الدولة العثمانية التي بقيام الدولة السعودية العربية تنتزع منها الشرعية الدينية، ليس هذا فقط بل وهددت كلا من العراق والشام، فأوعزت إلى إبراهيم باشا والي مصر من إسقاط الدولة السعودية، لكن الإمام تركي بن عبد الله ال سعود أسس الدولة السعودية الثانية 1881-1891، واستبدل الدرعية بالرياض كعاصمة للدولة السعودية الثانية التي انتهت على يد محمد بن عبد الله بن رشيد أمير حائل بدعم العثمانيين، رغم أن إمارة آل الرشيد قد نشأت بمساندة ودعم من الإمام فيصل بن تركي لأميرها عبد الله بن علي الرشيد حين عينه أميرا على جبل شمر.
تأسست الدولة السعودية الثالثة على يد الملك عبد العزيز في 1902 وشكل إمارة الرياض 1902-1913، إمارة نجد والأحساء 1913-1921، وسلطنة نجد 1921-1926، مملكة الحجاز ونجد 1926- 1932، والمملكة العربية السعودية 1932.
يرجح الدكتور العثيمين أن الدولة العثمانية عرضت على الإمام عبد الرحمن والد الملك عبد العزيز آخر أئمة الدولة السعودية الثانية قرب المبرز في الأحساء إمارة الرياض مقابل الاعتراف بسيادة الدولة العثمانية، ودفع خراج سنوي قدرة ستة آلاف ريال، وتتعهد الدولة العثمانية بحمايته وتمده بالمال والسلاح لأنه متأكد أن أنصاره لن يقبلوا هذا العرض، خصوصا وأن الدولة السعودية لن تتمكن من التوسع في الأحساء الواقعة على الخليج، والحجاز مقر الحرمين الشريفين التابعين للدولة العثمانية، وتصبح شبه الجزيرة مقسمة ومتناحرة، لكنه فضل البقاء في الكويت على هذا العرض، كان حينها أميرها مبارك الصباح، خصوصا وأن لآل الصباح رغبة في ضرب عدوه وخصمه بن الرشيد، فهو بذلك يستفيد من أمجاد آل سعود التاريخية، وقد حدثت غارات بن الرشيد وصلت إلى حدود العراق وتصدى لها سعدون باشا أبو عجيمي رئيس قبائل المنتفق الذي كان يؤيد موقف الشيخ مبارك ضد آل الرشيد.
استأذن الملك عبد العزيز والده والشيخ مبارك في استرداد الرياض فأذنا له في يوليو 1901 فدخلها بغته وحاصرها أربعة أشهر لأنه يعرف أهلها ومدى استجابتهم لعودة حكم آل سعود وكرههم لسيطرة آل الرشيد، لكن هزيمة الشيخ مبارك ومن معه في الصريف جعلته ينسحب ويعود إلى الكويت لفك الحصار، وعندما علمت قوات آل الرشيد مقدم قوات الملك عبد العزيز التي كانت تحاصر الكويت تراجعت وهربت.
استأذن الملك عبد العزيز مرة أخرى وبإلحاح شديد على أبيه والشيخ مبارك الصباح رغم معارضة والده في أول الأمر مردها التجربة المرة في معركة الصريف، لكن الملك عبد العزيز ينظر إلى ما جرى في الرياض على يديه وليس ما جرى في معركة الصريف، لكن كان موقف الشيخ مبارك مغايرا لأنه يرى أن ذلك ستشغل أمير حائل عبد العزيز بن متعب الرشيد عن مضايقة الكويت وتهديدها مما يخفف الضغط عليها، ولم يخرج الملك عبد العزيز إلا بعد موافقة والده، وقال له أما وقد عزمت فأسال الله العون والظفر.
فخرج الملك عبد العزيز في منتصف عام 1901 توجه عبر الأحساء نحو الربع الخالي، وفي الطريق اجتذب محاربين من قبائل العجمان وآل مرة وسبيع، وأخذ يغزو الملك عبد العزيز بهم القبائل المعادية الموالية لآل الرشيد، وعندما علم ابن متعب أرسل رسائل إلى السلطات العثمانية في بغداد والبصرة، ولما علمت القبائل خشية بطش الأتراك توقفت عن المشاركة.
قضى الملك عبد العزيز شهر رمضان في واحة يبرين بين قطر والربع الخالي، حتى أن بن متعب لم يعر اهتماما كبير لهجمات الملك عبد العزيز، وفي 12 يناير 1902 خيم في أطراف الرياض، وبعد أن أخذ قسطا من الراحة في واحة صغيرة ترك عدد من أفراده وأوصاهم بالفرار إذا لم يعد في الفجر، أما الباقون فتوجهوا إلى أسوار المدينة، وفي ظلام الليل وعلى رأسهم الملك عبد العزيز، وتركوا احتياطيا عشرة رجال وتوجهوا إلى صاحبهم جويسر الذي كان يسكن قرب الحاكم الشمري عجلان بن محمد، ثم تسللوا إلى منزله عجلان، واستدعى الملك عبد العزيز شقيقه محمد مع الرجال العشرة، واجتمعوا جميعا في منزل عجلان حتى تم القضاء عليه وعلى بقية الحامية، وأصبح الملك لعبد العزيز، وهي الخطوة الأولى لاستعادة ملك آبائه وأجداده، واندفع سكان الرياض إلى المبايعة، وإعادة بناء سور الرياض الذي هدمه ابن الرشيد في معركة حريملاء، وتعد من أروع قصص البطولة.
وما توقعه الشيخ مبارك الصباح حدث بالفعل، فقد كان عبد العزيز بن متعب بن رشيد يفاوض العثمانيين في حفر الباطن ليساعدوه على احتلال الكويت، ولما علم بدخول الملك عبد العزيز الرياض رغم انه لم يهتم كثيرا، وأقام في حفر الباطن أربعة أشهر، وبعد أن لمس تقاعس الأتراك ومماطلتهم عاد إلى حائل لتجهيز جيشا ليغزو الرياض، لكن الملك عبد العزيز انتصر عليه في معركة الدلم القريبة من الخرج في يونيو 1902، وانتصر عليه أيضا في بلدة الوشم.
استثمر الملك عبد العزيز أن وجود القوات التركية في نجد خرقا لاتفاقية عام 1901 بشأن المحافظة على الأوضاع القائمة، وكانت انتصار الملك عبد العزيز في معركة البكيرية والشنانة فاصلة وحاسمة شاركت فيها القوات التركية والشمريين، وكانت نهاية للوجود التركي، وأصبح وضع الملك عبد العزيز قويا، وراجعت الدولة العثمانية حساباتها، وطلبت المفاوضات مع الملك عبد العزيز، ووجدها الملك عبد العزيز فرصة لتحييدهم.
استغل بن رشيد نجدة الملك عبد العزيز أمير قطر ضد خصومه الشيخ قاسم بن ثاني، فزحف بن الرشيد نحو بريدة في 1906، لكن كانت معركة روضة المهنا نهاية عبد العزيز بن متعب، فخلفه ابنه على حائل متعب بن عبد العزيز، وعقد صلحا مع الملك عبد العزيز تنازل بموجبه عن القصيم، وطلب الملك عبد العزيز من الدولة العثمانية إخراج قواتها من القصيم سلما أو حربا، اختار القائد العثماني الحل السلمي، وهي قوات قدمت من العراق والمدينة المنورة تلقى على إثر خروج القوات سلميا شكر تلقاه الملك عبد العزيز من السلطان عبد الحميد الثاني.
بأمر من الدولة العثمانية تقدم الشريف حسين بن علي أمير مكة نحو نجد ولكن بعض المؤرخين لا يرون أنه تلقى أمر من الدولة العثمانية بل هو من اتخذ القرار، وعندما وجد الشريف حسين أن الموقف لن يكون في صالحه أرسل الشرف خالد بن لؤي في إقناع الملك عبد العزيز بأن يعترف أن الحجاز تابع للدولة العثمانية وتعهد بدفع مبلغ من المال.
لبى الملك عبد العزيز طلب الكويت لمحاربة المنتفق وقائدهم سعدون باشا الذين كانوا متحالفين مع الشمرين ضد الكويتيين في يونيو 1910 وقام الشريف حسين من أجل تثبيت حكمه وولاءه للباب العالي قام بحملة على عسير من أجل الأتراك، لكنه عاد ودخل نجد وأخذ شقيق الملك عبد العزيز سعد أسيرا، وأصبح خالد بن لؤي أمير الخرمة يلعب دورا في استيلاء الملك عبد العزيز على الحجاز، وبعد مفاوضات أطلق الأمير سعد شقيق الملك عبد العزيز.
استعاد الملك عبد العزيز الأحساء من الأتراك عام 1914، ورحلت الحامية العثمانية، وأقر العثمانيون بالأمر الواقع، واعترفوا به رسميا واليا على نجد ومتصرفا على الأحساء، وأهدوه النيشان العثماني الأول، وعين الملك عبد العزيز عبد الله بن جلوي أميرا على منطقة الأحساء، واحتل الانجليز البصرة وأخرجوا العثمانيين منها وأرسلوا وليام شكسبير وكان الوكيل في الكويت، وبدأ الانجليز التودد للملك عبد العزيز، وعقدوا معه اتفاقية دارين عام 1915 بين الملك عبد العزيز وممثلهم السير بيرس كوكس والاعتراف بالمناطق التي تحت سيطرة الملك عبد العزيز خشية أن يتحالف الملك عبد العزيز مع بن الرشيد حلفاء الدولة العثمانية، جددت هذه الاتفاقية باتفاقية جدة 1927 واعترفت بريطانيا بسيطرة الملك عبد العزيز على الحجاز ونجد وبقية المناطق.
أعلن الشريف حسين في أثناء الحرب العالمية 1916 الثورة على الدولة العثمانية وتحول إلى حليفا لبريطانيا، وأعلن نفسه ملكا على العرب، ما جعل العلاقة تزداد توترا بين الملك عبد العزيز والشريف حسين، وأثناء فترة انعقاد مؤتمر السلام في باريس في أعقاب الحرب العالمية الأولى انتصر جيش الملك عبد العزيز على الشريف حسين في تربة والخرمة التي كانت بداية ضعف الهاشميين في الحجاز ثم سقوط دولتهم 1926، ومن قبل تم فتح حائل في 1921 وضم عسير في 1922، وسميت المملكة العربية السعودية في عام 1932.
كان الملك عبد العزيز ماهرا في قراءة الأوضاع الدولية، دقيقا في النفاذ في دهاليزها، ونجح في تجييرها لصالحه، فبنى دولة، وكانت له مواقفه كحاكم فذ من بريطانيا ويدرك مواقفها منه، ورغما عن إرادتها وبحنكته السياسية بنى دولة وتوحيد أمة، وكيف نجح في مناورة الجميع، ونجح في تثبيت أركان دولته.
كان يتعامل الملك عبد العزيز مع الامبراطوريتين في ذلك الوقت وفق توازنات دقيقة، فعندما امرت بريطانيا الملك عبد العزيز بتكوين جيش من قبله ومن قبل أمير الكويت والكعبي للاستيلاء على البصرة نيابة عن بريطانيا وطرد العثمانيين في 3/5/1913 رفض الملك عبد العزيز واعترفت الدولة العثمانية بالدولة السعودية سميت باتفاقية الصبيحية بواسطة طالب النقيب التقى في الصبيحية في الكويت لكسب ود الملك عبد العزيز.
احتلت بريطانيا العراق مع بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914 بعدما أصبحت حليفة لألمانيا وإيطاليا وندمت بريطانيا على ابتعادها عن الملك عبد العزيز، بل رفض الملك عبد العزيز طلب مندوب بريطانيا إعلان الملك عبد العزيز إعلان الحرب على ألمانيا وتركيا، لكنه وعد بالحياد، ولم يعلنها ضد بريطانيا أيضا.
نفس الإرث التاريخي يتكرر اليوم ويتم تطبيقه من قبل السعودية في الحرب الروسية في أوكرانيا تمكنت من القيام بواسطة الافراج عن الأسرى بين الجانبين، على عكس بن الرشيد الذي أعلن وقوفه مع الدولة العثمانية، وبعد احتلال الانجليز العراق عقدوا مع الملك عبد العزيز اتفاقية دارين في 26/12/1915 بعدما أصبحت بريطانيا تحيط بالدولة السعودية من كل جانب، وهذه الاتفاقية تعتبر أول دولة عربية وإسلامية تعترف الدول الاستعمارية الكبرى باستقلاله دون أن يقدم لها أي تنازل، ولم تكن معاهدة حماية كما يدعي البعض.

—————

Dr_mahboob1@hotmail.com

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة سابقًا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى