صحيح أن الطبيعة الاستعارية للأدب تجعله مرتبطًا بالواقع المعاش وملابساته، وصحيح أن الإبداع الأدبي -بالتحديد – فعل فردي وذاتي، إلا أنه يمتلك خاصية التفاعل مع بيئته اجتماعيًا وثقافيًا. بمعنى أن ما يستعيره الأدب من الواقع يعود إليه. وهكذا فالعلاقة بين الأدب والواقع تفاعلية على نحو مستمر، بما يدفع آلية التطور والتجديد لكل منهما. وعلى ضوء هذه العلاقة المحدودة بين المبدع وبيئته يظهر التجديد في النتاج الأدبي كأداء زمكاني نمارسه في حدود لحظتنا الآنية ومكاننا الصغير، أو بيئتنا الثقافية، ثم يصبح قديمًا وفي حاجة إلى دفعة جديدة للأمام. لكن الثقافة لم تعد شأنًا فرديًا ولا ذاتيًا، كما أنها لم تعد محدودة جغرافيًا لتعبّر عن هوية اجتماعية ذات خصوصية، فعلى الفضاء الإلكتروني ثم براح لتفاعل ثقافات عدة، حتى إن الهوية الفردية نفسها، لم تعد بمنأى عن مدخلات جديدة تتوالى عليها وتجعلها أكثر قلقًا، لهذا.. فإن الرهانات الاجتماعية وحدها، لم تعد قادرة على الصمود في مواجهة هذه المتغيرات الفادحة والمتسارعة التي تجتاح العالم الآن، ووسمت العصر بسيولة ثقافية، وفق تعبيير: زيجموند باومان، لا تمكننا من حكم مطلق على العمل الفني، ليس من حيث أصالته وتفرده فحسب، بل من حيث هويته الاجتماعية أيضًا. فالهوية الاجتماعية لنص أدبي، تمكننا من إدراك هويته الثقافية وفقًا لخصوصية النسق الثقافي لكل مجتمع، وارتباطه بالمكان والزمان كما يشير الدكتور عبدالله الغذامي. فمثل هذه الأنساق تمنحنا القدرة على تحديد هوية النص، وانتمائه الثقافي والسياسي والعقائدي.
الآن، وفي ظل السيولة الثقافية على شبكات الإنترنت، لم يعد من السهل التمييز بين نص أصيل وآخر مستعار. وفي ظل هذا الواقع وطبيعته التفاعلية؛ فإن دوافع التجديد وآلياته تصبح أكثر التباسًا وغموضًا، بما يصعّب من مهمة الناقد في تمييزه، ونسبه إلى أصوله النظرية أو الفلسفية، فلم يعد ثم بد من مراقبة الظواهر لحظة تشكلها، ومحاولات تفسيرها وفقًا لتلك المتغيرات المقلقلة لواقعنا المعاش، بلا يقين في أن ثمة ما هو كلي ومتفرد ومكتمل بذاته باعتباره نظرية كبرى لا يطالها الشك، أو مدرسة أدبية خالدة. نحن نعيش تلك اللحظة التي يصفها إيهاب حسن في إشارته إلى ما بعد الحداثة، بكونها ثقافة: كله ماشي.
حالة اللا يقين التي ارتبطت بما بعد الحداثة وعمقتها الطفرة التكنولوجية، تهدد الطموح النقدي الذي طالما ارتبط بالفلسفة وعلم الجمال، وأسس وجوده على نظريات ومناهج تنتمي كلية إلى عقلانية الحداثة ويقين العلم.
إن النقد يتعرض بالفعل إلى حالة من التراجع والضمور أفضت إلى الكلام عن موت الناقد بعد موت المؤلف، بما يضمر موت الأدب نفسه.، كما أن هوية الناقد نفسها تتعرض لهزة عنيفة بعد التأكيد على دور القارئ في إنتاج النص، سواء كان قارئًا ضمنيًا مراقبًا وموجهًا للذات المبدعة، أو قارئًا خبيرًا وفقًا لتعبير صحابي نظرية القارئ والاستجابة: أيزر وياوس.
إن هذه الوضعية الجديدة للقارئ تجعله أكثر حساسية في استشعار المستجدات بل وشريكًا في إنتاجها، عندما يصبح جزءًا من الفعل الإبداعي ذاته، ومحركًا لمساراته وفق قواعد أشبه بقواعد العرض والطلب. لهذا ثمة ضرورة لإعادة النظر في معنى النقد ووظيفته، ليصبح جزءًا من مفهوم الإبداع بل وشريكًا في رسم مساراته.
لقد كشفت السنوات الأخيرة عن انفصال النقد واغترابه في مواجهة المستجدات التي طرأت على المشهد الأدبي العالمي لا العربي فحسب، عندما وضع النقاد أشكالًا ومسارات مستجدة في هامش اهتمامهم، فنحن لا نرى قدرًا مناسبًا من العناية النقدية بظواهر جديدة أصبحت مرافقة للإبداع الأدبي المغرق في الخيال على نحو مفارق للواقع وقضاياه وهمومه، أو التحول كليًا إلى واقع بديل فما يعرف بالرواية الرقمية. وعلى الرغم من الحضور القرائي الكبير لما يعرف بروايات الألغاز والرعب؛ فإنها تظل مركونة في الهامش النقدي للأدب. كما أننا لا نملك تفسيرًا نقديًا لظاهرة الإقبال على الرواية التاريخية في السنوات الأخيرة، بوصفها نوعًا من اللجوء إلى واقع لم يعد موجودًا ومع ذلك، فهو يبدو مؤرقًا لحاضرنا. إنه إقبال أنتج روايات لا تتشابه في موضوعاتها فحسب، بل في عناوينها أيضًا، لتبدو وكأنها كتبت في سياق موضة منتشرة وفق آليات تسويق سلعي يدعمها زمن الرواية.
لننظر إلى التشابه الموضوعي – على الأقل – في تلك الروايات، التي تعيد إنتاج موضوعات تاريخية، لها مقدمات معروفة عند جورجي زيدان، ورضوى عاشور، كما نرى في الروايات التالية: الموريسكي، الموريسكي الأخير، هذا الأندلسي، البيت الأندلسي، راوي قرطبة، حصن التراب.. حكاية عائلة موريسكية، سر الموريسكي، الموريسكية. تغريبة القبطي الأخير، دفاتر القبطي الأخير، بيت القبطية، ابن القبطية. أفندينا، بنت أفندينا، زمام أفندينا، أيام أفندينا..إلخ) بل ويمكننا الإشارة إلى أن مثل هذه الظواهر تتنازع المشهد الأدبي، فتتحول إلى ما يشبه الموضة، وتحظى بفرص تسويقية وجوائز، لتبدو كما لو كانت رد فعل مقابل في اتجاه مضاد لقضايا الواقع المعاش.
أعرف أن لا بأس من أن يعيد الكاتب معالجة ثيمة، أو موضوع ما كتبه آخرون من قبله. في الحقيقة، موضوعاتنا محدودة. لكن الموضوع الأدبي، لم يعد أمرًا ملحًا، ومرتبطًا بمتغيرات الواقع ومستجداته، أصبح أقرب إلى كتلة من الصلصال، يمكن إعادة تشكيلها إلى ما لا نهاية! لكنه يفصح عن أصله بوصفه قطعة من الصلصال. فلم يعد سؤال الكتابة ليس ماذا تكتب؟ ولكن كيف تكتب؟
هذا السؤال لا يمكن الإجابة عليه، بعيدًا عن الانتباه للظاهرة، ورصدها، ووضعها تحت مجهر النقد ومقارناتها ببعضها البعض. لكن عندما يكون المشهد النقدي متشظيًا على هذا النحو؛ فسوف يتعامل مع الموضوع الواحد وكأنه يكتب لأول مرة.
وفي سياق قريب من هذا يمكننا أن نتساءل عن أثر السينما على الإبداع الروائي، حيث يمكن ملاحظة تغير كبير في هذه العلاقة بين فنين مختلفين. في الماضي كانت السينما تنهض على الآثار الإبداعية والروايات ذات القيمة الأدبية. أما الآن فعلى العكس.. يمكن ملاحظة أن كثيرًا من الروايات -التي تقبع في الهامش النقدي أيضًا – تلهث وراء السينما، عبر مغازلات واضحة لصناعها وجمهورها، ولا سيما فيما يعرف بروايات الرعب، أو الخيال العلمي التي تحظى بإقبال واسع بين الناشئين والشباب.
هل يعني هذا تراجعًا في مكانة الأدب؟ ربما لأن السينما، وإمكاناتها البصرية والصوتية حققت قيمًا تقنية مضافة مستفيدة من التحولات المدهشة في مجال البرمجيات التكنولوجية حتى إنها تجاوزت توقعات رولان بارت في الستينيات عندما قال :”لقد أصبحت السينما حقيقة تقف على قدم المساواة مع غيرها ويجب على جميع الفنون وكل الأفكار أن تشير إليها” ( 1)
وظني أنه لم يعد من اللائق غض الطرف النقدي عن مثل هذه التحولات مهما بدت خارجة عن السياق المعتمد في اتجاهات النقد الأدبي ومناهجه ومعاييره النظرية. إنها تحولات لا تشير إلى حاضر الأدب فحسب بل تشير إلى مستقبله أيضًا. غير أن تاريخ النقد الأدبي وارتباطه ببلاغة الكتابة لا يمكّنه من فهم بلاغة الصورة وتقنياتها المتجددة. الأمر يحتاج إلى تاريخ جديد للنقد البيني العابر للحدود بين الأدب والسينما والبرمجيات الحاسوبية.
ولعل تلك الواقعة تفضي بنا إلى عوار آخر في المشهد الأدبي، وهو أن الإفراط في منح الجوائز أصبح ضالعًا في تشويه الحراك الأدبي. إذ يمكننا ملاحظة أن لجان الجوائز وأساليب منحها أصبحت هي نفسها تمثل بؤرًا معزولة تضاف إلى مشهد أدبي مفكك لا يعترف ببعضه البعض، بل ولا يرى بعضه البعض في سباق نظري لاهث طوال القرن العشرين. فقط يسعى كل طرف إلى تأكيد حضوره بشتى وأسهل الطرق، سواء عبر اصطياد الجوائز، أو إعلانات وآليات (best sellr) وغيرها من وسائل دعائية تلهث وراءها المتابعات الصحفية، التي تحقق سيطرة أكثر وضوحًا بسبب قدرتها على الانتشار، بما يفضي إلى اتساع الهوة بين المبدع والناقد الأكاديمي.
وأخيرًا، يمكن الإشارة إلى أن مقولة ( زمن الرواية) أسهمت بقدر كبير في خلق مشهد روائي مترهل، في مقابل تهميش فنون أدبية عريقة مثل: الشعر، والقصة القصيرة، التي تعتبر رافدًا مهمًا من روافد التجديد، نظر لطبيعتها المرنة وقدرتها على التقاط اللحظات العابرة والتفاصيل الصغيرة، والإنصات إلى المعنى الوجودي للإنسان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سيد الوكيل، روائي وناقد، وناشط ثقافي مصري، وعضو اتحاد كتاب مصر، ورئيس تحرير بالهيئة المصرية العامة للكتاب، ومؤسس موقع صدى ( ذاكرة القصة المصرية)