من عدة سنوات كنت في عزاء.. رأيت ابنة المتوفى الوحيدة، وهي فتاة في العشرينيات من عمرها، تشتبك مع أعمامها في مشاجرة كلامية تمتدُّ لآخر الشارع.. هم يطالبونها بمسامحة أخيهم قبل أن يذهبوا بجثمانه إلى القبور، وهي رافضة تمامًا، حتى إنها تركت عزاء أبيها، ورحلت، رغم أنه هو آخر من تَبقَّى لها، بعد وفاة أجدادها من الأب والأم، ووفاة أمها، وبقائها وحيدة في هذه الحياة.
موقف كلُّ مَن يراه يعيبها فيه أشد العيب، ولكنْ لأني أعرف تفاصيل التفاصيل، فلا ألومها على ما فعلت.. فهذه الفتاة كل علاقتها بأبيها كانت وهي رضيعة، ثم تركها مع أمها، وهاجر، وكفلها جدها، حتى توفاه الله. لم تشعر يومًا بحنان أو وجود الأب، وإنما كانت كل أفعاله تُرسِّخ كراهيتها له.
ولأنه صار من رجال الأعمال؛ فإنه ظل طوال حياته يتنقل بين الدول، ولم يفكر في يوم أن يسأل عن ابنته، ولا تَحرَّكَ له أدنَى شعور بالذنب من أن زوجته ماتت مقهورة منه، والجميع حتى إخوته “المتسامحون” يعرفون هذا جيدًا!
موقفان سريعان لمثالين من أدعياء الورع والتقوى، الأول زميل أخذ مني عرائس قفازية من النوع الراقي لعرض مسرحية في حضانته، ولم يردَّها، وكل الذي أخذته منه جملة “سامح يا شيخ”.
والثاني يبهرك مظهره الإمامي، ويخدعك ورعه الظاهري، ولشدة الثقة به، واستحالة أن تمسَّه الظنون، ائتمنته على مال، ووجدها فرصة ليأكله عليَّ، وبدل أن يطالب نفسه بردِّ الأموال، طالبني أيضًا بالتسامح، فقلت له: أتريد أن تأكلني بالحلال؟!
والحق أنها مشكلتي أنا؛ لأني وغيري كثيرون مستقرٌّ في عقولنا ونفسياتنا مفهوم خطأ عن التسامح.. نراه إلزاميًّا ولكن في حالات معينة، ومنها أن يكون الظالم مُفتريًّا، ويتعمل له حساب، رغم أن هناك الأَوْلَى، وهو الأخذ على يد الظالم، وردُّ الحق لصاحبه.
العفو والتسامح من أخلاق الإسلام نعم، ولكن لأن الإسلام دين الطبيعة البشرية؛ فإن الله -عز وجل- لم يُرغِمْ أحدًا على التسامح، وإنما حضَّ عليه لِمَنْ أحَبَّ؛ لذا لا ينبغي أن نُلزِمَ أحدًا به، أو نُرغِمَه عليه. ولو فرضنا جدلًا أن الفتاة طاوعتهم، وسامحت أباها المتوفى، فهل سيكون هذا تسامحًا حقًّا؟
الأصل في الإسلام هو القصاص “العين بالعين والسن بالسن”، وهذا واجب. أما “وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لكم”، “فَمَن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ”، فأنت حرٌّ فيه، فكيف تُرغِمُ أحدًا عليه، والله الحكم العدل لم يُلزِمْ به؟!
التسامح درجة ترتقيها، تجعلك ممن يحبهم الله، ولكنَّ تركَه لا يُنقِصُ من قدرك عند الله شيئًا.
فها هو ذو القرنين، وما أدراك ما ذو القرنين! خيَّره الله بين العقاب والعفو، فماذا اختار؟
“قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا، قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا”.
اختار عذابين، الأول في الدنيا والآخرة، والثاني الأشد في الآخرة، فهل ذو القرنين الذي حكى الله عنه بوصفه على أقل تقدير من أولياء الله، وخاطبه الله، قاسٍ أو غليظ القلب، ولو لم يكن كذلك، فلماذا اختار الاختيار الأصعب والأعنف؟ لأنه جاء لإرساء العدل، ولم يأتِ شيخَ حارةٍ أو كبيرَ قَعْدة؛ لذا لا بد من ردع الظالم؛ لأن الظالم لا يكون ظالمًا إلا باعتماده على جبروت وقوة، وهي اللغة الوحيدة التي يفهمها.
وهذه وظيفة الحاكم أن يأخذ الحق من القوي، ويعطيه للضعيف.
وبعد أن تشرق شمس العدل، وتمحو ظلمات الظلم، تزهر رفاهية العفو والتسامح لدى الغالبية العظمى، إن لم يكن الجميع، ووقتها تراهم يتزاحمون في صفوف العافين عن الناس؛ ليستظلُّوا تحت الآية الكريمة: (واللَّهُ يُحِبُّ المُحسِنينَ).
0