اختلف الفقهاء في شرط المَحرَم لحج المرأة؛ فبعض المذاهب السُّنيَّة تراه شرطًا ليس مقصودًا لذاته إذا تحقق الأمن وتوفرت الرفقة الصالحة؛ حيث يجوز للمرأة أن تحج بدون مَحرَم، وكلها اجتهادات معتبرة، ومبنيَّة على الصحيح من قواعد الاستدلال، وقد خَرجت المرأة مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للغزو بدون مَحرَم، كما سقط شرط المحرم في زمن الخلافة الراشدة… فماذا يقول فقه الواقع اليوم؟!
وليُّ الأمر ليس ملزَمًا بمذهبٍ واحدٍ؟!
يشير الشيخ الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي ـ دكتوراة في أصول الفقه جامعة أم القرى ـ إلى أن وليَّ الأمر له إذا رأى المصلحة أن يتيح لكل عالم أن يُفتي بما أدى إليه اجتهاده شريطة أن يكون المُفتَى به قولًا محفوظًا مبنيًا على الصحيح من قواعد الاستدلال، ومن ذلك حج المرأة دون مَحرَم إذا كانت مع جماعة من النساء أو مع رفقة مأمونة، وكانت المرأة عاقلة، راشدة ذات دين وحياء، فإن الشافعي ومالكًا ـ رحمهما الله ـ يأخذان بهذا القول بشروطه المذكورة في كتب الفقه، وليس على إطلاقه.
فإذا أذن ولي الأمر بالعمل على ما عليه الفتوى عند المذاهب السُّنيَّة الأخرى فلا بأس بذلك لغلبة المصلحة مع التأكيد على أن الصحيح من مذاهب العلماء هو أنه يشترط لوجوب الحج على المرأة وجود المَحرَم، وأي سفر سواء أكان لحج أم لغيره دون مَحرَم لا يجوز! ولو استفتتني امرأة في أقصى الشرق أو الغرب سأقول لها ذلك، مع عدم التحريج على من يفتي بأي مذهب من المذاهب المعتبرة.
في ميزان فقه الواقع؟!
يرى الدكتور سهيل بن حسن قاضي ـ عضو مجلس الشورى سابقًا ـ حج المرأة بلا مَحرَم من منظور فقه الواقع المتمثل في تغير الفتوى لتغير الزمان والمكان والأحوال، ومدى ارتباط ذلك الفقه بمقاصد الشريعة وضرورة الالتفات إليها في التعامل مع النصوص، وعلاقة النص والمصلحة ببعضهما البعض، وسعة الفقه الإسلامي في التعامل مع القضايا المستجدة؛ ليذهب إلى أنه طالما تحققت شروط السلامة، وتلاشت مكامن الخطر، وظهر رجحان المصلحة، فإن سفر المرأة للحج تتحقق فيه مقاصد الشريعة خاصةً إن كانت في صُحبة مأمونة من النساء أو كان السفر آمنًا بمفردها، كما في حديث عدي بن حاتم: “… فإن طالت بك حياة لترينّ الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلّا الله….”. مستطردًا، ولعل وجود الرجل في سفر المرأة يضفي مزيدًا من الأمن والسلامة، خاصة إن كانت المرأة بحاجة لمن يعينها على أداء مناسك الحج، أو كانت بحاجة إلى رعاية خاصة.
سقط شرط المحرَم في زمن الخلفاء الراشدين
ويرى الدكتور عبد الرحمن بن نويفع السلمي ـ أستاذ كرسي أم القرى لإحياء التراث الإسلامي ـ : أن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة أن تسافر إلا مع ذي مَحرَم معقول المعنى، وأنه للحفاظ على شرف المسلمة وصيانتها من العدوان والفساد، فإذا حصل الأمن وتحققت الصيانة فقد زال السبب الذي من أجله جاء النهي، فللمؤمنة أن تحج فريضتها إذا تيسرت لها في رفقة آمنة ولو لم يكن معها ذو مَحرَم مستشهدًا بالحديث الذي أخرجه البخاري في باب علامات النبوة عن عدي بن حاتم الطائي، قال: “بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي، هل رأيت الحِيرَة؟ قلت: لم أرها، وقد أُنبئت عنها، قال «فإن طالت بك حياة، لترينَّ الظَّعينة ترتحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله (… ثم قال عدي بن حاتم): فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله!” الحديث، ولفظه طويلٌ وهذا القدر الذي اختصرته من الحديث فيه دلالة على جواز سفر المرأة للحج عند الأمن على نفسها بدون مَحرَم، ودل الحديث أيضًا على أن هذا قد حصل في زمن الخلافة الراشدة حين عمّ الأمن ديار الإسلام، فكانت المرأة تخرج في هودجها من الحِيرة وهي بلدة بقرب الكوفة إلى مكة وليس معها من تستجير به -كما جاء في بعض ألفاظ الحديث- إلا الله.
اختلاف الفقهاء رحمة!
يقول حافظ بن علي الفيفي ـ مستشار قانوني ـ : قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ والاِسْتِطَاعَةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ قِسْمَانِ: شُرُوطٌ عَامَّةٌ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ، وَشُرُوطٌ تَخُصُّ النِّسَاءَ.
أما شُرُوطُ الاِسْتِطَاعَةِ الْعَامَّةِ فهي أَرْبَعُ خِصَالٍ:
الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَآلَةِ الرُّكُوبِ، وَصِحَّةُ الْبَدَنِ، وَأَمْنُ الطَّرِيقِ، وَإِمْكَانُ السَّيْرِ.
وأضافوا بالنسبة للنساء الزَّوْجُ أَوِ الْمَحرَم الأَمِينُ، وألا تكون في عدة شرعية (وفاة أو طلاق). واشتراط الزوج أو المَحرَم الأمين لتحقق الاستطاعة بالنسبة للمرأة داخل في أمن الطريق وإنما تم النص عليه استقلالًا لحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ ثَلاَثًا إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحرَم.
وقد ذهب الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلى أن الرُفْقَةً المَأْمُونَةً تقوم مقام المَحرَم لتوافر الأمن معها وتحقق الاستطاعة. وَالرُّفْقَةُ الْمَأْمُونَةُ جَمَاعَةٌ مَأْمُونَةٌ مِنَ النِّسَاءِ، أَوِ الرِّجَال الصَّالِحِينَ. قَال الدُّسُوقِيُّ: وَأَكْثَرُ مَا نَقَلَهُ أَصْحَابُنَا اشْتِرَاطُ النِّسَاءِ”.
المالكية والشافعية أجازوا للمرأة السفر لحج الفريضة مع الرفقة المأمونة في زمنٍ كان السفر فيها لأداء الحج يستغرق عدة أشهر، فكيف الحال في الأزمنة المتأخرة مع وسائل المواصلات الحديثة التي لا يستغرق السفر من خلالها إلا بضع ساعات، إضافة إلى أن وسائل الاتصالات وتوافر المصارف ودور الإيواء الآمنة التي يمكن حجزها ودفع تكلفتها قبل إنشاء السفر زادت الأمور أمانًا والحمد لله.
ويعجب المستشار الفيفي ممن يأذن بسفر المرأة بمفردها للترفيه أو يستقدم العمالة من النساء المسلمات اللاتي يسافرن بمفردهن بدون مَحرَم ثم يُشدد في أدائهن لفريضة الحج مع أن في المذاهب الفقهية التي أجازت الرفقة المأمونة سعة ومندوحة!
خرجن للغزو مع رسول الله بدون مَحرَم
ومن جانبه يشير الدكتور أحمد بن قاسم الغامدي ـ مدير عام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة مكة سابقًا ـ إلى اختلاف الفقهاء في حكم سفر المرأة للمناسك بغير مَحرَم، والأظهر جواز ذلك إذا أمنت الطريق، وبذلك عمل الصحابة عمر وعثمان وعبدالرحمن بن عوف وابن عمر، وروى نافع بسند صحيح قال: كان يسافر مع عبدالله بن عمر موليات له ليس معهن مَحرَم، والمولاة هي الأمة المعتقة التي لم يعد سيدها مَحرَمًا لها وهذا ما رأته السيدة عائشة ـ أم المؤمنين ـ وتعمل به، فقد روي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: لا يحل للمرأة أن تسافر ثلاثة أيام إلا ومعها ذو مَحرَم، فالتفتت إلينا عائشة فقالت: ما كلهن لها ذو مَحرَم. خرجه البيهقي والطحاوي بسند صحيح وخرجت أم المؤمنين للإصلاح بين المسلمين في الفتنة، ويشهد لهذا ما رواه أنس قال: كان رسول الله يغزو بأم سليم، ونسوة من الأنصار معه، إذا غزا يسقين الماء ويداوين الجرحى. أخرجه مسلم في صحيحه. فلو كان لهن محارم لنسب أخذهن للغزو إلى محارمهن وليس إلى رسول الله كما ورد في غيرهن ممن خرجن للغزو مع محارمهن.
إذا تحقق الأمن سقط شرط المَحرَم؟!
ويذكر الدكتور الغامدي إلى اجتهادات معتبرة مثل قول الباجي في سفر المرأة للحج بدون مَحرَم:(ولعل هذا الذي ذكره بعض أصحابنا إنما هو في حال الانفراد والعدد اليسير، فأما القوافل العظيمة والطرق المشتركة العامرة المأمونة فإنها عندي مثل البلاد التي يكون فيها الأسواق والتجار فإن الأمن يحصل لها دون مَحرَم ولا امرأة، وقد روي هذا عن الأوزاعي). وقال ابن الملقن في الإعلام: المشهور من مذهب الشافعي أنه لا يُشترط المَحرَم في سفرها للحج، وبه قال عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين، ومالك والأوزاعي. وإليه ذهب ابن تيمية وفي (الاختيارات) للبعلي قال: وتَحُجُّ كل امرأة آمنة مع عدم مَحرَم. قال أبو العباس: وهذا مُتوجِّه في سفر كل طاعة ـ وقال النووي: وقال بعض أصحابنا: يلزمها بوجود نسوة أو امرأة واحدة، وقد يكثر الأمن ولا تحتاج إلى أحد، بل تسير وحدها في جملة القافلة وتكون آمنة. وقال البندنيجي: قال بعض أصحابنا: يجوز بغير نساء ولا امرأة إذا كان الطريق آمنًا، وبهذا قال الحسن البصري وداود. وقد أفتى بجوازه من المعاصرين مع الأمن الشيخ عبدالرزاق عفيفي وابن جبرين وآخرون. فنهي النساء عن السفر إلا بمَحرَم ليس نهيًا مقصودًا لذاته وإنما لعلة الأمن فمتى تحقق الأمن جاز سفرها على الأظهر، وهو اختيار جماعة من الفقهاء والمحققين وبه أقول.
العلة انتفت من الخوف عليها
تؤكد فاتن ابراهيم محمد حسين ـ كاتبة صحفية ومستشارة وزير الحج سابقًا. أن تصريح معالي وزير الحج والعمرة الدكتور توفيق الربيعة بإمكانية حج المرأة بدون مَحرَم، وبتوجيه من حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، قد لاقى صدى عالميًا. فالمرأة اليوم في مأمن على نفسها خاصةً حينما تكون أيضًا معها رفقة طيبة من السيدات، كما أن هناك الكثير من السيدات يقدُمن إلى المملكة للعمل بدون مَحرَم مشيرةً إلى أن هذا القرار الصائب يستند إلى واقع ومعطيات تسمح للمرأة بالحج والعمرة والزيارة بدون مَحرَم؛ لأن العلة انتفت من الخوف عليها والقرار يواكب رؤية المملكة ٢٠٣٠ التي تستهدف استضافة ثلاثين مليون معتمر وحاج سنويًا.
المحرم حق للمرأة وشرط المحرم أحزم
يُجمل الدكتور حمد بن سالم المري ـ عضو هيئة التدريس بجامعة الملك فيصل، المشرف على طلاب المنح ـ : اختلاف الأئمة والفقهاء في حج المرأة الواجب من غير مَحرَم؛ على قولين مشهورين: أولهما: أن المحرم شرط وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل، والثاني: أن المحرم ليس بشرط وقد ذهب مالك والشافعي، وقد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن مفلح وجمهور العلماء على جواز ذلك، وكان ابن عمر يحج معه نسوة من جيرانه وكان عمر رضي الله تعالى عنه متوقفًا في ذلك أولًا، ثم ظهر له الجواز؛ فأذن لأمهات المؤمنين وتبعه على ذلك جماعة من غير نكير وتأويل شرط المَحرَم في الحج الواجب الأمن على المرأة، ومثاله سفر المرأة للحج الواجب مع جَمْعٍ من النساء في (حملة حجٍ) رسميَّة وأنها رفقة مأمونة في العادة . ولعل قرار وزير الحج انعكاس لحال توافر الاستقرار والأمن ولله الحمد في وقتنا الحاضر ولكن تبقى مرافقة المحرم للمرأة حق لها، ومن يشترط المحرم الأحزم.