في لندن عندما يكون الجو ماطراً.. لا يستحب السير في الشوارع كثيراً..
فإن أوراق شجر الخريف المصفرة في الأرض يلتقي بها الماء.. فتصبح لزجة قد تؤدي بمن يمشي عليها إلى كركبة.. خاصة من كان مثلي حركته بطيئة.. وأحب أن أزيد فيها..
ولكن رغبتي لا تلبيها قدرتي.. فأكتفي بما هو منطقي ومعقول ومقدور عليه..
خرجت من بيتي متجولاً حوله.. فرأيت المطعم الذي أمر عليه كثيراً كل يوم أثناء سيري وأتجاوزه رغبة في أن أمشي أكثر..
هذا المطعم.. تركي.. أسمه سفرة.. ثم أصبح اسمه فورا.. مزدحم دائماً.. ورواده كثيرون.. ومن كل الجنسيات.. ولاحظت أن الإنجليز يقصدونه مع باقي سواح لندن وسكانها..
دخلت ورحبت بي نادلة صغيرة من لبنان.. عرفتني بنفسها قائلة.. “أنا أسمي سلام ومن لبنان”.. وسألتني عن بلدي وعندما أخبرتها بأني من السعودية قالت.. من أي مدينة..
قلت.. من جدة..
قالت.. أنا أخطط أن أعتمر مع أبوي وأمي.. سألتها عن عمرها..
فقالت.. تسعة عشر عاماً.. وأنا أدرس القانون هنا.. أنا أعمل وأدرس.. وسوف أنجح في دراستي.. دراسة القانون هنا ليست سهلة..
سألتها.. لماذا القانون..
قالت.. سوف يكون المظلومون كثر.. أكثر من الآن.. فمعنى هذا زبائن أكثر وسعادة أكبر..
قلت.. ربما زبائن أكثر.. ولكن كيف سعادة أكبر؟..
قالت.. كلما نجحت أن تنصف مظلوماً.. فإن سعادتك أوفر..
كانت تنتقل من طاولة لأخرى كالفراشة.. وتعمل بشغف وإتقان وابتسامة توزعها على رواد المكان..
قالت.. “الماما وبيي حابين مكة والمدينة”.. ثم قالت بيدها زيادة في التعبير.. إن شاء الله يروحوا.. ويسعدوا في رحلتهم..
ودعتني بالطريقة اللبنانية.. وبالمفردات المحبوبة.. “نورتنا.. آنستنا.. بنشوفك مرة ثانية.. إذا إلك ملاحظات علينا”..
شكرتها ومدحت طريقتها..
كانت تعامل الكل بهذه الطريقة.. وكلما أراد أحد من الزبائن خدمة.. يقول “سلام..سلام” وكأنها الوحيدة التي تخدم في مطعم يعج بالزبائن والعاملين..
لا أخفيكم.. إني دعوت لها أن يحفظها الله.. ويحقق آمالها.. فهي نموذج يحتذى ومثالاً لقصة نجاح..
لا أدركها.. ولن أعرفها.. والله يحققها..
آخر كلماتها وهي تفتح الباب..
الله معك..
بالمناسبة.. هي من شمال لبنان.. من مدينة طرابلس..
أحمد حسن فتيحي