المقالات

تقسيمات الرأي العام ما بين المنطق والواقع

قبل أن أتحدث عن الرأي العام وتقسيماته، أود أن أتطرق في البداية إلى تعريفه؛ احترامًا وتقديرًا للجهود العلمية الكبيرة والمبذولة من أجل تحديد مفهومه، ولعل أبرز التعاريف التي وضحته بشكل كبير هو تعريف “هارولد تشايلد” عندما وصفه بأنه (مجموع الآراء الفردية، التي يتوصل إليها الناس إزاء المسائل التي تؤثر في مصالحهم العامة والخاصة) فتكمن أهمية هذا التعريف والوصف في وجوب توافر قدر كبير من الحريات وضماناتها ويأتي في مقدمتها: حرية التفكير والاعتقاد، وحرية التعبير بكل طرقه وأساليبه، وحرية تبادل الآراء والأفكار ونشرها، وحرية الاجتماع والاتصال والانتقال؛ وهذه الحُريات وضماناتها لا تتوافر إلا بقيام المجتمع الديمقراطي السليم، فمبدأ قدرة المجتمع على تحقيق الديمقراطية بقدر ازدهار الرأي العام وقوته وفعاليته .
ولا يمكن التحدث عن الرأي العام ونغفل عن تعريف الدكتور “مختار التهامي” بأنه (الرأي السائد ‏بين أغلبية الشعب الواعية في فترة معينة بالنسبة لقضية أو أكثر يحتدم فيها الجدل والنقاش وتمس مصالح هذه الأغلبية أو قيمها الإنسانية مسًا مباشرًا)، ولعل هذا التعريف العلمي من أهم التعريفات العلمية التي وضحت مفهوم الرأي العام، من خلال التطرق إلى أسباب ودوافع الناس للتحدث وللتعبير عن آرائهم وممارسة هذا الحق في أمرين رئيسين، وهما: المصلحة الشخصية المهنية التي جعلت الفرد يُعبر عن رأيه حول قضية شائكة أو مسألة معينة، بالإضافة إلى دافع آخر نفسي غريزي فطري مرتبط بالتنشئة الاجتماعية؛ ومتعلق بُمعتقدات ثابتة وراسخة بداخله يصعب تغييرها وهي “القيم المجتمعية”، فعند أي موضوع يتعارض مع هذه المعتقدات الثابتة لديه تجده يدافع بقوة وشراسة من أجل عدم تغييرها والالتزام بها، ولعل من أهم الأمور التي يجب التحدث عنها عند الحديث عن الرأي العام هو ذكر تقسيماته وتصنيفاته حسب عمق التأثير والتأثر والإقناع وهي محددة علميًا في ثلاثة تقسيمات :
1- الرأي العام القائد والمسيطر
ويتكون هذا الرأي من صفوة قادة الرأي وخاصةً المُعلمين والمُثقفين والمُفكرين وأساتذة الجامعة، وهؤلاء يمثلون نسبة قليلة من الشعب؛ وتعتبر وظيفتهم في المجتمع هي وظيفة القائد الذي يقود ويُثقف ويُوجه ويُرشد الناس، وهذه الصفوة لا تتأثر بوسائل الإعلام والدعاية، وإنما يؤثرون بها بأفكارهم وآرائهم.
2- الرأي العام القارئ والمثقف
ويُعتبر هو التقسيم الثاني لتقسيمات الرأي حسب التأثير فهو يتكون من أواسط الناس ثقافة والذين تقل ثقافاتهم عن النوع الأول؛ والمقصود بهم ممن يحملون تعليمًا عاليًا أو متوسطًا، ويختلف حجم هذا الرأي حسب درجة التعليم في المجتمع، فهو رأي يؤثر في من هم أقل منهم درجة من حيث التعليم والثقافة ويتأثر بوسائل الإعلام والدعاية بنسب متفاوتة حسب مستوى نضجه .
3- الرأي العام المنقاد
ويتكون هذا الرأي من الفئة التي لا تنتمي للفئتين السابقتين، وهم غير القادرين على مواصلة البحث والاطلاع، ومن غير القادرين كذلك على متابعة الأحداث أو النظر في بواطن الأمور أو القراءة بين السطور، ويتأثر أصحاب هذا الرأي بالتصنيفين السابقين، وتؤثر فيهم وسائل الإعلام والدعاية والشائعات، ويتشكل هذا النوع عادةً من الذين نالوا حظًا قليلًا من التعليم والثقافة؛ ولذلك هم يعتبرون صيدًا سهلًا من خلال إيمانهم التام بجميع ما يُنشر ويُذاع عبر وسائل الاتصال عامة، وبكل ما يُنشر في الصحف والمجلات بصفة خاصة.
وبعد الرجوع إلى تقسيمات وتصنيفات الرأي العام من زاوية التأثير والتأثر والإقناع، أجد اختلافًا كبيرًا بين الواقع الحالي وبين ما يجب أن يكون، فالواقع قد فرض علينا أمورًا غريبة لا يُصدقها عقل ولا يدعمها منطق ولا يرضى بها مثقف غيور على مجتمعه؛ فالتحول النوعي الكبير الذي نخشاه قد يحصل عندما يتأثر بعض المشهورين المُنقادين بما لديهم من مُتابعين وُمشاهدين له، ويعتقد بأن رأيه أصبح رأي القائد والمُنبه والمُسيطر، وهو في الحقيقة لا يتعدى إلى أن يكون منقادًا، والإشكالية تكمن عند تهميش من هم في صفوة القوم من مُثقفين ومُفكرين حتى يفقدوا مكانتهم التي يجب أن يكونوا فيها والتي ضمنها لهم تعليمهم وثقافتهم، وعلى سبيل التوضيح وجدنا بعض المشاهير والذين يُعتبرون مُنقادين حسب تصنيفات الرأي العلمية، إلى مُهاجمة الكثير ممن هم في صفوة القوم؛ فمنهم من تهجم على المدرس والمُعلم وقلل من دورهم المجتمعي بسخرية واستهزاء واحتقار؛ واصفًا لهم بالكسالى الذين لا يُقدمون ولا يقومون بواجبهم تجاه الوطن والمجتمع، ومنهم من قلل من أحد أهم الشخصيات السعودية المؤثرة علميًا ودينيًا، بطريقة بها الكثير من السخرية والتعالي والتقليل والتهميش غير مباليًا بثقافة هذه الشخصية وعلمها، ولا مكترثًا لمكانتها وعُمرها، الحالات كثيرة والقائمة طويلة، لكن ما أود توضيحه هو بالرغم من وحشية هذه السلوكيات وعشوائية هذه التصرفات؛ إلا أن جمالية الأمر يكمن في تفاعل المتابعين لهم حول ما يقدموه، وتحول دورهم الوظيفي من مُتابع ومُشاهد إلى مُراقب لكل المحتويات غير الهادفة والتي تخلو من القيم الإنسانية؛ والقيام بتقديم هذه المحتويات وتوصيلها للجهات المختصة؛ لتنفيذ العقوبات الصارمة بحق كل من تجاوز المعايير والأدبيات الواجب توافرها في الشخص الناقد لكي يمارس حقه في التعبير عن رأيه؛ والتي قد أشرت إليها في مقال سابق بعنوان “الإعلام وعلاقته بالتنمية “.
أخيرًا عزيزي القارئ أدعوك لحملة تصحيحية تثقيفية توعوية، تهدف إلى المساهمة في رفع الذوق العام بتحقيق العلو الثقافي؛ من خلال إلغاء متابعة كل شخص لم يحترم ولم يُقدر تواجدك كمتابع له، ويتضح لك ذلك من خلال طرحه الفقير ثقافيًا والمؤذي والمُعدي مجتمعيًا؛ حتى يتم ردعهم ولا نساهم في صنع المزيد منهم، ومتابعة كل من يُقدم لك الإضافة معلوماتيًا وثقافيًا واجتماعيًا من خلال طرحٍ هادفٍ ومتزن يعكس فكرًا ناضجًا وثقافةً عالية، وبهذا نكون قد ساهمنا في إعادة البوصلة إلى وضعها الأصلي والحقيقي.

– عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com