عاد منصف من البحر، وجدها جالسة على باب البيت تضحك، ترقب القادمين بفارغ صبر . ترد السلام على من يلقيه عليها . هي ابنة أصول، وفوق هذا هي بنت شيخ الصيادين.
لم يكن بينهما قصة حب، لكن أباها حدثها عن مروءته وشهامته، ومشيه السليم، فقبلت به زوجا، مادام ساعداه قويان، لا يتكاسل عن السروح للبحر، فيه يقضي عدة أيام حسب الرزق الذي يبعثه ربنا في البحر أو الخلجان القريبة من الحدود أو عند جزر متناثرة في العمق .
في تلك المدينة هناك شاب عائد من اليونان، يطلق عليها أهل القرية بلاد “الإجريج”، هذا الشاب قد عاد من سفره بآلاف الدولارات ـ فهو يذهب ليغيرها في بنوك المدينة ـ وبحذاء لميع أسود، وقمصان منقوشة بزهور صغيرة بينما تطل من فتحة صدره سبيكة من الذهب اللماع، تخطف الأبصار إذا ما انعكست عليها أشعة الشمس.
ما ضيرك ـ صديقي عمرـ إن كنت حدثتك من قبل أنني لا أطيق هذا الشاب، ليس لمجونه واستهتاره، بل لسلوكه المشين حين يقوم بإخراج علبة السجائر الأجنبية ووضعها أمامه على طرف الطاولة . إنه يصفق بيديه كأنه في بلاد أوربا، بدلا من أن ينادي العامل باسمه، يطلب زجاجة طويلة العنق، مبططة، وكوبا من الزجاج. يبدأ صب المشروب بهدوء بينما يجذب أنفاس السيجارة ، ويخرج دخانها تارة من أنفه، وتارة من فمه.
الشيء الذي لم أصدقه حتى رأيته بنفسي أنه يتحكم في نفسه، فيكتم النفس قليلا ثم يطلقه من أذنيه .فهل هناك سحر أسود أكثر من هذا؟!
قد تستغرب يا عمر لأنني أذكر هذه الواقعة كثيرا، فهي تدل على أن هذا الشاب الذي لن أنطق اسمه حتى لا يتسخ لساني ، مغرور، بل يمارس الغواية .
كان وقت سروح، وأغلب الرجال في البحر، يصارعون الأمواج المتلاطمة والرياح العاتية، وهذا الولد الألعبان ـ ابن زبيدة ـ يمارس بلطجته بشكل ناعم. فإذا ما مرت أمامه فتاة في الملاءة اللف، ظل مسهما، تائها حتى تمر.
صحيح أنه لا ينطق بكلمة واحدة لكن عينيه ـ لو نظرت إليهما في تلك اللحظات ـ تقدحان شررا، وبكل ثقة نقول إن السلوك الأعوج، لا يوافق عليه شخص مؤدب، متعلم، ربته المدارس .
أغرب ما كان يفعله أن ينطق كلمات يونانية، تكاد تكون شائعة، ويلقيها على الجلوس، لكنها تخرج من فمه لتذهب إلى الهدف مباشرة. هدف نسوي، مترجرج، عبر نظام الفلقتين وكلنا عبيد الله، لا نرضى الدنية.
كان هدفه صباح زوجة الصياد، والله أعلم بكيفية الوصول إليها، واختراق الحجب ليحدثها وتحدثه. لا يوجد دليل واحد على انفراده بها ؛ فهي ليست من أولئك النسوة الجريئات. أقصى ما تسمح به إذا سمعت كلمة حلوة لمن يمر بجوار بيتها ذي الطابق الواحد أن تضحك، وتضع رأسها كسوفا في كم فستانها.
لا نعرف كيف تناقلت أخبار غامضة حول علاقة مريبة تربط هذا الفتي الجانح بابنة شيخ الصيادين، والمؤكد أن ما حدث هو عيب وخطأ جسيم لا يُغتفر. ينقل عم محمود شوق أنه رآهما معا، يدخلان السينما ـ حفلة الساعة 6 مساء ـ في البندر. ودخول السينما للنساء المتزوجات عيب جسيم، ولكن الهمس ظل ينتقل من فم إلى أذن إلى فم حتى سمع به صيادون كثيرون يذهبون للسروح.
العائد بالدولارات ظل على طبعه يجلس بالساعات في المقهى عند الرصيف بالخارج يدخن السيجارة، ويصب المياه الغامضة في الكوب.
العربي حمودة يقسم إنها خمرة، أما صبح فردان فيعتقد أنها بيرة ماركة النجمة. ولقد وضع الحناوي حدا لهذه التقولات فأكد أنها مياه غازية عادية، لا تسكر ولا تذهب بالألباب. والدليل أن الشاب يقوم من مجلسه فلا يظهر عليه اضطراب في السير أو ميل في المشية.
عاد منصف من البحر هذه المرة متوترا، ألقى نصيبه من السمك في فناء البيت، جهزت له صباح الحمام ليستحم، ولكنه أجل ذلك لسبب لم تعرفه . لم يأكل معها ككل مرة في طبق واحد. طلب منها طبقا بمفرده، ولتأكل هي في حجرتها.
بعد انتهائه من تناول الطعام مد يده ينتزع الكبريت كي يشعل سيجارة، ويبدو أن البلل طال أعواد الثقاب. سهم في الفضاء الرصاصي البعيد. دخل المطبخ باحثا عن شيء يشعل سيجارته. كانت تنظر نحوه بريبة وفزع . ارتطمت يده بعلبة كبريت ماركة أجنبية . حك العود فلم يشتعل .. انكمشت في نفسها وابتعدت للركن القريب من النافذة. طلب منها أن تشعل الأعواد أمامه فيده ترتعش.
بكل ما لديها من قوة حكت العود، فاشتعل بمنتهى البساطة، ضرب صدره بيده، وطلب منها إشعال الأعواد جميعا، والقائها من الشباك عودا عودا .
فعلت صباح ما طلبه، بدت كالمنومة وهي تلقي الأعواد المحترقة، وحين انتهت بكت طويلا. خرج من البيت وطرق الباب من خلفه بعنف وغل .
– الحائز على جائزة الدولة التشجيعية في مصر، وجائزة ساويرس الثقافية “فئة كبار الكتاب”