الحب الجماهيرى الجارف الذى حظى به الفنان الشامل صلاح جاهين , كان يؤهله للثراء الفني والإنساني , والتعبير عن لحظات شعب بأكمله عبر أشعاره العامية الرائعة , وشخصية جاهين المرحة كانت على عكس ولادته المتعثرة , فقد ولد شديد الزرقة و دون صراخ حتى ظن المحيطون أن الطفل قد ولد ميتاً، ولكن جاءت صرخة الطفل منبهة بولادة طفل ليس ككل الأطفال فى يوم 25 / 12 / 1930 بحي بشبرا في شارع جميل باشا , وكانت لهذه الولادة المتعثرة تأثيرها، فمن المعروف أن الولادة المتعثرة تترك آثارها على الطفل فتلازمه طول حياته وقد تتسبب في عدم استقرار الحالة المزاجية أو الحدة في التعبير عن المشاعر – سواء كانت فرحاً أو حزناً، وهو ما لوحظ في صلاح جاهين الذي يفرح كالأطفال ويحزن لدرجة الاكتئاب عند المصائب , ولم يستكمل صلاح دراسته بالفنون الجميلة ، ولكنه درس القانون في كلية الحقوق إرضاءًً لوالده ، ووصل إلى السنة الأخيرة لكنه في النهاية لم يدخل الامتحان ولم يتخرج منها فقد كان بالفعل وقتها ملء السمع والبصر كفنان وشاعر متميز وكان قد اختار طريقه في الحياة، فهو شاعر مجيد ورسام كاريكاتير من الدرجة الأولى .
كلماته حملت دائما الصدق والحب والتفاؤل , لكن حبه لوطنه فاق كل الحب , لم يكتب جاهين شعارات باردة جوفاء بل استطاع ان يغوص فى اعماق الانسان المصرى المتطلع الى عالم أفضل ليستخرج منه بكلمات عامية بسيطة وبليغة فى آن واحد، أجمل ما فيه من أغنيات ومزامير راح ينثر بها البهجة والفرح الحقيقى بالفجر البهى القادم على الأفق. لم تكن فى كلماته أية ظلال لافتعال سياسى او تعبوى، بل كانت مشاعر عفوية صادقة ترقص فى قلبه المتفائل المحب للحياة فتتحول عبر شاعريته الأصيلة الى أناشيد للفرح والحب واللهفة المتوثبة.
على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء
أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء
باحبها وهي مالكه الأرض شرق وغرب
وباحبها وهي مرميه جريحة حرب
باحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء
كانت أشعار جاهين ومواقفه جواز سفره لمختلف البلدان العربية التي رددت كلماته حَفْزاً للعمل والإنجاز , وحب الأوطان , والتخلص من الظلم والاستبداد , وقد اعتبره النقاد امتدادا لبيرم التونسي سيد الزجل الشعبي والسياسي في مصر القرن العشرين , ولأنه كان يشعر بأن الحياة قصيرة فقد دخل معها فى سباق لذلك لم يتوقف لحظة واحدة طوال حياته عن الإبداع , فأنجز المئات من القصائد التي تراوحت بين الزجل و الشعر العامي و الشعر الشعبي و تحولت إلى أغنيات غناها عشرات المطربين ،وراوحت بين أغاني الحب و الأغاني الوطنية والأغاني الخفيفة، و كتب أيضا عددا من الأوبريتات الغنائية ربما كان أشهرها أوبريت الليلة الكبيرة الذي ما زال يحتفظ بألقه حتى اليوم،ومئات الرسوم الكاريكاتيرية التي بدأ في رسمها أسبوعيا في مجلتي صباح الخير و روز اليوسف الأسبوعيتين، قبل أن ينتقل إلى صحيفة الأهرام .
ياعندليب ماتخافش من غنوتك
قول شكوتك واحكى على بلوتك
الغنوه مش حتموتك…… إنما
كتم الغنا هو اللى ح يموتك
نهل جاهين من التراث الفلكلورى المصرى والعربى الاسلامى والمسيحى. ومزجها كلها فى صوت صادق متفرد , رباعياته كشفت جواهر فكرية ووجدانية بديعة , كان ضيفا فى برنامج إذاعى اسمه “جرب حظك” سأله فيه مقدمه عباس أحمد: من فى رأيك أعظم رسام كاريكاتير فى العالم؟ فأجاب جاهين الذى كان بدينا، قصيرا، أصلعا، وكأنه كرة ضخمة: الحقيقة أنى كل ما بصيت فى المراية عرفت ان ربنا سبحانه وتعالى هو أعظم رسام كاريكاتور فى الدنيا ! فانفجر الجمهور ضاحكا , ونشر فى اليوم التالى لإغتيال الرئيس الامريكى الشاب جون كيندى فى عام 1963 قصيدة رائعة فى رثاء الرئيس الامريكى فى جريدة الاهرام والتى تدل على انفتاح جاهين السياسى والدينى معا، فلم تمنعه يساريته الفكرية من التعاطف مع رئيس امريكى شاب كان مثقفا ثقافه انسانية حقيقية وقف امام نفوذ التحالف الصناعى العسكرى فى بلده واشاع فى العالم كله أملا فى مستقبل اجمل.. ولامنعته ثقافته الاسلامية من معرفة واستخدام رمز مسيحى شهير فى تلك القصيدة هو يوحنا المعمدان الذى كان يوصف بالصوت الصارخ فى البرية لقوته وشجاعته فى المجاهرة بالحق حتى اوصله هذا الى تقديم رقبته على طبق هدية لسالومى من الملك هيرودس أنتيبى الذى صرخ فى وجهه يوحنا المعمدان يوما: هذا لايحل لك .
لم يجد فى نفسه يوما مع طبيعة الصدام والمعارضة والهجوم على الآخرين. بما فى هذه من العنف العاطفى والخشونة الوجدانية الضرورية للتحمل والصمود . نعم هو شاعر الحلم الثورى لكنه ليس شاعر الغضب والتصدى والتعدى، ولذلك كانت لأناشيده الثورية دائما جانب الاعراس المحفوف بالأجراس والمزامير والرقصات الشعبية .
أنا شاب لكن عمري ألف عام
وحيد لكن بين ضلوعي زحام
خايف و لكن خوفي مني أنا
أخرس و لكن قلبي مليان كلام
عجبي !!!!
أصاب جرح 67 قلب جاهين ولعل أجمل مايعبر عن حالة جاهين تلك بعد أنهيار أحلام الثورة التى شارك فى صنعها هى رباعيته التى كتبها عندما أصابه انسداد فى شرايين القلب
يامشرط الجراح أمانة عليك
وانت فى حشايا تبص من حواليك
فيه نقطة سودة فى قلبى بدأت تبان
شيلها كمان.. والفضل يرجع اليك
المشهد الأخير فى حياة جاهين كان أكثر قسوة من الفصول القاسية الأخرى فى حياته , فقد دخل الفنان العبقرى فى اكتئاب شديد , حتى كان يوم 21 ابريل 1986 , اليوم الذى صعدت روحه فيه إلى السماء ليسطر صلاح جاهين رباعيات ذهبية من الحب والبهجة والوطن , ربما تحمل الأمل للأجيال القادمة .