قال صاحبي: لماذا تعرض وسائل الإعلام موضوعًا ما بطريقة سلبية، ثم تعرضه بطريقة أخرى إيجابية بعد فترة من الزمن، هل تظن أن جمهورها يتمتع بذاكرة سمكية، أم أنها اكتشفت خطئها وأرادت تصحيحه، أم إن لها مآرب أخرى؟
ساد في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في أوروبا وأمريكا، تفسير جديد حول السلوك البشري وعلاقته بوسائل الإعلام في ضوء تنامي المبالغة في قوة تأثير وسائل الإعلام، ففي فرنسا حذر «غوستاف لوبون» بشدة من القوة غير العقلانية لقوة جديدة في المجتمع هي قوة الحشد، التي وصفها بأنها “كتلة بربرية”، تتفوق عندها العاطفة على العقل، ما قد يعرَّض الحضارة للخطر، وبهذا يكون قد سبق غيره بالإشارة إلى سلوك بعض مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي.
أما الباحث الفرنسي «جابرييل تاردي» فمن خلال تنبؤه بسلطات وسائل الإعلام في القرن العشرين أكد على أن الصحف الحديثة يمكن أن “تطلق مليون لغة”، وتنقل الأفكار عبر مسافات شاسعة وتشكِّل الأفكار، وبطريقة مماثلة حذر عالم الاجتماع الألماني «فرديناند تونيز» من أن الصحيفة تقوم بتسليع المعلومات مثل “سلع البقالة”، كما أنها تقوم بتسويق وصناعة الرأي العام، وتشكيل مشاعر الجماهير بطرق فعَّالة، وما قيل عن الصحف المطبوعة، ينسحب على بقية وسائل الإعلام.
لا يملك المتخصص على وجه التحديد إلا أن ينبهر بهذه الرؤى الاستشرافية، التي سبقت عصر ازدهار وسائل الإعلام والاتصال، بسنوات طويلة، واستطاعت التنبؤ بتأثيراتها المختلفة على مستخدميها، وقدرتها على صناعة واقع مغاير للحقيقة، وما يستتبعه من صناعة وبلورة الرأي العام، وتجهيز الجماهير نفسيًا وذهنيًا لتقبل الأفكار والمعلومات فيما يتعلق بقضايا الفرد والمجتمع، والدول، وهذا ما يتم بالفعل بعد أن أصبحت هذه الوسائل مكونًا رئيسًا في حياة الأفراد والدول يستخدمها كل منهما لتحقيق منافعه، وإشباع احتياجاته.
فعلى سبيل المثال استغل هتلر وسائل الإعلام المتاحة آنذاك؛ وخصوصاً الإذاعة والسينما وسخرهما للدعاية النازية، كما استغلها كيندي وريتشارد نيكسون في الدعاية الانتخابية لهما، وسعي كل منهم لكي ذاكرة الجماهير، وطمس العنف النازي، والعنف ضد السود، والعنف ضد الفيتناميين، وهذا ما يؤكد على قوة تأثير وسائل الإعلام، وقدرتها على تحقيق التأثير المراد، وهذا القول يدعمه الإنفاق الضخم على الإعلانات التجارية في وسائل الإعلام المختلفة.
لقد كان “ليبمان” على حق حين رأى أن الإعلام يُشكِّل تصورنا للعالم، فنحن لا نصل للأخبار بأنفسنا، وإنما نعتمد في تحصيلها على وسائل الإعلام (إضافة إلى شبكة الإنترنت وتطبيقات السوشيال ميديا التي أصبحت اليوم من أهم وسائل الحصول على هذه المعلومات)؛ وذلك لمعرفة ما يحدث في أي في العالم، هذه المعلومات والصور هي من يشكل رؤيتنا ومعتقداتنا تجاه الأحداث وهذا أحد أسباب قدرتها التأثيرية لتوجيه الرأي العام.
إذن فوسائل الإعلام تمارس عمليًا إعدام ذاكرة مستخدميها نتيجة اتحاد السياسة مع الإعلام، حتى أصبحا وجهين لعملة واحدة، فالإعلام بجميع وسائله سخر نفسه لخدمة السياسية، وأصبحت العلاقة بينهما علاقة عضوية، تحكمها مصالح مشتركة، وتوجيهات وضوابط؛ جعلهما قادرتين على إعدام ذاكرة الشعوب، وتغيير الحقائق، فيصبح عدو الأمس صديق اليوم، فالإعلام الغربي الذي شيطن الاتحاد السوفيتي ورموزه السياسية هو ذاته الذي قاد حملة دعائية تهدف إلى تغيير الصورة السلبية التي تم تقديمها من خلالهم عن الاتحاد السوفيتي خلال العقدين السابقين إلى صورة جديدة أكثر إيجابية، وأصبح الديكتاتور جوزف ستالين” العم جو!!.
لذا يثار السؤال متى يكون الخوف على الجمهور من التلاعب مُبررًا؟ أو متى تكون المخاوف من وجود “غسيل المخ” وتأثيرات الوسائط الضخمة حين تقدم محتوى بعيدًا عن الواقع؟ هذه إحدى التساؤلات المهمة التي تثار في بيئة الاتصال السياسي بشكل عام.
قلت لصاحبي:
بعض وسائل الإعلام تمارس اغتصاب الجماهير عندما تكذب بشكل مهني ومتكرر؛ ليتحول كذبها في النهاية إلى ما يشبه الحقيقة.
0