قال صاحبي: تحدثت في لقاء سابق أن الإعلام السياسي قديم، وقد مارسته الشعوب المختلفة في أثينا، وروما، وبابل وغيرها فهل عرف العرب هذا النوع من الإعلام، وكيف كان ذلك، ومتى، وما أبرز الوسائل التي استخدموها، وهل كان لها التأثير المنشود؟
عرف العرب الإعلام السياسي كغيرهم من شعوب الأرض، ومارسوه بطريقتهم الخاصة، فلم يكن لهم نصيب من النحت والنقش، والرسم على الجدران، ولكن مهارتهم كانت في التصوير البلاغي، فهم أمة الخطابة والبيان، وقد برعوا في الرسم بالكلمات وعبروا عما تكنه نفوسهم بجزيل العبارات، التي عُرفت فيما بعد بعلم الدعاية.
هذه البراعة العربية في صناعة الدعاية لم تأتِ مصادفة، بل كانت نتيجة طبيعية للأسباب التي أدت لظهورها وتطورها، فالحياة آنذاك كانت قائمة على الصراعات والحروب بين قبائل الجزيرة العربية من ناحية، أو بينهم وبين محيطهم الخارجي من ناحية أخرى؛ لذا تسابق صنّاع الدعاية العربية إلى إعلاء شأن قبائلهم، وبث الخوف والرعب في نفوس خصومهم، عملًا بالقاعدة الصينية القائلة “حطم نفوس العدو بدلًا من مدنه”.
لذا كانت القبلية تفخر وتبتهج عند ميلاد شاعر لها، ينافح عنها، وينشر أخبارها، وتتجنب القبائل الأخرى هجائها خصوصًا إذا كان شاعرها يعد من فحول الشعراء وأرباب الكلمة، فكيف بها إذا جمع شاعرها بين الشعر الذي ذاع وانتشر من خلاله صيتها، وأصبح للقبيلة حضورها الإعلامي المؤثر في مختلف المنتديات، حتى بلغ شاعرها أعلى المراتب بتعليق قصيدته على أستار الكعبة، وبين الفروسية، وأضحى شاعر القبيلة وفارسها.
عنترة بن شداد الذي عاش في عيون الجواء في منطقة القصيم بالمملكة العربية السعودية، كان أحد هذه النماذج التي جمعت بين فروسية السنان واللسان، فالمتأمل بما تحمله السميولوجيا في قصائد عنترة سيجد فيها الكثير من الدلائل على شخصيته المعتزة بقيمه ومكارمه ولونه، رغم احتقاره من قبل البعض لسواده، وهو ما لا يخفيه أو يخافه فصرح به، بل وجعل من لونه سيد الألوان ومنه سيد قومه عند قرع طبول الحرب:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سُقمها قيلُ الفوارس ويكَ عنتر أقدم
كما أن هذا الشاعر الفارس الشهم الذي لا يُهاب الخصم، وترتعد من سماع اسمه فرائص الأعداء، يحمل بين جنبيه قلبًا حنونًا رقيقًا، عشق به عبلة ابنة عمه الذي رفض زواجه منها، حتى بلغ منه الهيام بها مبلغه، فأنشد قوله:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل منّي وبيض الهند تقطر من دمي
فودتت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
هذان البيتان فيهما من الدلائل والصور الجميلة ما يعكس شخصية هذا الفارس الصنديد، ففي الوقت الذي يشبه البعض معشوقته بالقمر والورد، يأبى عنترة هذه المعاني ويشبهها في لمعان السيوف، هذا المعنى الذي لا يعرفه إلا عنترة وحده، والأجمل أنه يتذكرها في وقت لا يتذكر فيه الناس إلا طرائق السلامة والنجاة من المعركة!!
وإنّي قد شربت دم الأعادي بأقحاف الرؤوس وما رويت
ولأن البيئة التي وجد بها عنترة بيئة صحراوية، تحكمها شريعة الغلبة والقوة، لترهيب الأعداء من الاقتراب من الحمى، فكان لازمًا عليه أن ينتج بحكم تخصصه الخطاب الدعائي لقبيلته، ويصنع لها صيتًا إعلاميًا، مستخدمًا فن الدعاية بمهنية عالية، للترويج لوالدته، ووصفها بصفات الحسن والجمال، وللتغلب على عقدة السواد، ولإثبات تفوقه على أقرانه، فإن لم يتفوق عليهم بالنسب، تفوق عليهم بالفروسية التي لا نسب لها ولا لون، ولإرهاب أعدائه، والأهم لتقديم ما يشفع له بأحقيته بالاقتران بابنة عمه.
يُنادونَني في السِلمِ يا اِبنَ زَبيبَةٍ وَعِندَ صِدامِ الخَيلِ يا اِبنَ الأَطايِبِ
ومع ما كان من قومه من نظرة دونية له ولأمة زبيبة، إلا أنه لم يقصر الفخر عليهما، بل شمل برنامجه الدعائي قومه، وأشاد بمنعتهم وعزتهم، مفاخرًا ومباهیًا بهم، ولأن الحرب في الميدان ليست وحدها من يصنع السياج الحامي للقبيلة، إذا لا بد أن يسبقها، ويتزامن معها، ويعقبها حرب أخرى تجرى في ميدان الإعلام “الشعر” فكان عنترة وزيرًا للوزارتين الحربية والدعاية، سابقًا على ما نقلته كتب الدعاية والحرب النفسية، من تأثيرات الرسائل الإعلامية في عقول وسلوك الجماهير.
قلت لصاحبي:
من يكسب معركة الإعلام يكسب معركة الميدان.
0