حتى لا يُقال وما أدراك، بعد التخرج مباشرة من كلية الملك فيصل الجوية، سرت بقدمي أو سارت بي، مع زملاء “كشتات” البر بتلك الوديان شرق وجنوب شرق محافطة جدة وكانت شبه خالية قبل تحويلها إلى مخططات سكنية. اليوم وبعد 35 عامًا ها هي ملايين الأمتار التي ربما اُعتدي عليها بالتحايل وقد أصبحت أحياء سكنية في بطون الأودية الخطيرة التي كانت تستقبل السيول من الجبال وغيرها بسلاسة منذ خلقها الله، والآن تستقبلها بعنف بسبب الإعاقة والنتائج أمامنا مؤلمة ومحرجة، وحين تقع الكارثة يوجه اللوم للدولة؛ وكأنها هي التي وزعت الأراضي مجانًا بصكوك وأقرت صلاحيتها للسكن عبر دراسات صادقة ومعتمدة من جهات موثوقة لا يدور حولها أي شبهة، وهل يوجد عاقل ينكر أن الفاسدين سابقًا غطوا جرائمهم في بعض المؤسسات بمواد النظام قبل إصلاحها، وهذه جريمة أعظم.
لست مختصًا ولكن كغيري منحنا الله عقولًا ومقدرة على التفكير ومعرفة الخطأ من الصواب حيال جغرافيا طبيعية يعرفها الإنسان الأمي قبل بناء المدارس ويفهمها أفشل المهندسين وما أكثرهم. وأقسم أن أعظم مفكر بعلم الأرض والتخطيط أو أي سلاح مهندسين بالعالم أو حكومة لن يستطيعوا جميعًا تغيير الواقع الذي خلق الله عليه ذات المكان بجدة وأرسى عليه هذه الجبال الشاهقة والتلال ومسارات المياه وأجرى الطوفان خلالها سواء كانت سيولًا محلية أو منقولة من بعد.
إن أردنا حلًا طبيعيًا ومنطقيًا يمنع تكرار كوارث السيول في تلك الأماكن المعروفة بالمحافظة، فأولًا على المواطن الكريم الساكن هناك أن يقتنع يقينًا أنه لا يمكن منع سقوط الأمطار على الجبال المحيطة ودونها ومن ثم جريان السيول باحثة عن أوديتها التي أقيمت عليها مساكنهم بخطأ الجميع، وحينما لا تجد مسالكها مذللة أمامها يزيد غيضها وقوتها واندفاعها وتحضر ملائكتها وشياطينها؛ لتعاقب بأمر الله من أعاقها في أملاكها الخاصة بها، لا الأمانة ولا المسؤول ولا شركات العالم تستطيع ذلك. وثانيًا على الساكن “المواطن” التفكير جديًا للبحث عن مكان آخر صالح للسكن، وهذا يتطلب بالضرورة تدخلًا رسميًا مباشرًا يحدد مئات آلاف القطع السكنية من الأراضي الحكومية في أماكن مختلفة سواء داخل المحافطة أو بالقرب منها وتخطيطها وتوزيعها مجانًا، ومنح لقروض بنكية للساكن بغرض البناء عليها.
أيها الناس لا يوجد حل غير إعادة كل هذه المناطق لطبيعتها القديمة واستغلال مرتفعاتها الصالحة للسكن أو الأعمال الأخرى إن أمكن، أقسم أنه لا يوجد أي حل ناجع حقيقي على الإطلاق لا في العام القادم ولا بعد ألف عام لمواجهة الفيضانات عند نزول الأمطار بهذه الكميات الهائلة وهناك متغيرات مناخية خطيرة كما تقول المصادر المفتوحة ويعلمها الجميع. لا يوجد حل لمواجهة السيول بتلك الأحياء حتى وإن أقيم حولها 1000 سد مائي لحمايتها، بل إن ذلك سيزيد من نسبة المخاطر.
إذا أفترضنا أن هناك مليون منزل بصكوك “نقية” في مجاري السيول فهناك حلول ممكنة تحمي الأرواح وتخفف الأعباء الحكومية الباهظة لمواجهة مالا يمكن مواجهته ولا طاقة لأحد به وهو الدفاع عن الحياة في عُمق الأودية القديمة ضد الأمطار الغزيرة وسيولها العارمة أو محاولة التحكم في مجاريها الطبيعية التي لا يوجد بديل لها.
كيف.. كيف؟! وهل نستطيع عكس اتجاه الجريان وإلى أين؟ وأيًا تكن التكاليف لإخلاء تلك الأماكن فهي أقل من تكاليف ومخاطر المستقبل مع الزيادة السكانية الطبيعية بتلك المواقع فكيف وهناك تمدد في المساحات المجاورة. المشكلة تحتاج قرارًا مدروسًا وعدم الاستماع لبعض المهندسين والموظفين بل استمعوا لبعض الإداريين والخبراء المستقلين فالموضوع يستحق وسيوفر الكثير على الجميع.
أيها الناس؛ السيول والأحوال الجوية الصعبة تهزم إرادة الجيوش المتمرسة وتعطلها وتشل حركتها، والرسول الكريم حذرنا من السكنى في أماكن معروفة ضمنها الأودية؛ فكيف نُطالب الجهات الرسمية بدفع خطر معروف لا يمكن دفعه.
أخيرًا؛ الفواتير المتراكمة لا يزيدها التأجيل والتسويف إلا مزيدًا من الرُّكام والخسائر والمخاطر، ولإيقاف ذلك يتطلب الموقف: “تسوية”، “قرار”.