كيف تهرب جدة من رحمة الله؟!

يُقال إنه في أحد الأيام سأل الوالي أحد خاصته كيف أصبحت؛ فقال أصبحت أحب الفتنة وأكره الحق وأهرب من رحمة الله، فغضب الوالي ولكن الرجل أوضح أنه يحب المال والبنون والله سماهما فتنة، ويكره الموت والموت حق، ويهرب من المطر والمطر رحمة من الله فسكن غضب الوالي.
تذكرت هذه القصة حين رأيت آثار المطر على مدينة جدة، وتساءلت في نفسي كيف تهرب جدة من رحمة الله، وقلت لن تستطيع أبدًا بعد أن مددها (بطحها) أمناء بلدياتها على شاطئ البحر الأحمر فسدت الأودية والشعاب، وجعلوا منها عائقًا ومانعًا يحول بينها وبين البحر في تحدٍّ سافر للطبيعة وإغلاق للعقل والمنطق الذي يقول: إن الماء ينحدر إلى الأسفل وأن البحر عادة هو أخفض مستوى من اليابسة؛ ولذلك تُقاس الجبال بارتفاعها عن مستوى سطح البحر، وتذكرت أيضًا بحيرة المسك التي وضعت شرق جدة، وكانت مياهها الآسنة تنحدر على جدة، ويقوم الأهالي بإعادتها إليها بالصهاريج في عملية عبثية حتى تداركتها رحمة الله فأغلقت.
وواقع مدينة جدة أنها حين تمددت على شاطئ البحر الأحمر أغلقت خمسة أودية كبيرة تنحدر مياهها من الشرق إلى الغرب باتجاه البحر، ولأن السيل يعرف طريقه كما يقولون فإنه حينما هطلت الأمطار وانحدرت السيول سلكت طريقها الذي تعرفه ولم تبالِ بما تجده في طريقها لأنها ترى أنها هي صاحبة حق وهم معتدون على حقها فكيف تعترض طريقها وتمنعها السير فيه.
كلنا نتذكر كارثة العام 2009 حين غرقت جدة وما قامت به الجهات الحكومية بعد ذلك من مشاريع لبناء السدود وشق الطرق للسيول وإزالة ما أمكن إزالته من عوائق إلا أن الشق أكبر من الرقعة وأن الحلول لم تكن ناجعة وأن الأمر يحتاج إلى تدخل جراحي عاجل يشق البطون ليخرج المسار الصحيح لكل وادٍ بغض النظر عن أي عائق أو كائن ما كان وإلا فإن الكارثة ستتكرر، إن الأمر ليس مستحيلًا وإن كان مكلفًا فالأودية معروفة ومجاريها معروفة معلومة، – ثم ماذا عن بقية مدن المملكة أليس فيها أودية تعدت أيدي عابثة على مجاريها لازالت مستترة تنتظر زخات المطر والسيول الجارفة لتظهر عوارها – غير أن هناك أسئلة تطرح نفسها وبقوة؟
هل يمكن إعادة فتح ملف قضية سيول جدة الأولى مرة أخرى بكل ملابساتها وكل أطرافها حتى الدوائر القضائية التي تصدت للحكم فيها؟ وهل يمكن إعادة تقييم الإجراءات الاحترازية التي تمت منذ السيول الأولى؟ وهل هناك فساد مستشرٍ استعصى اجتثاثه؟ أم هناك عجز في القدرات الإدارية والفنية لم يرتقِ لوضع الحلول الناجعة؟ وإلى أن نعرف الإجابة وتخرج الحلول إلى أرض الواقع هل تستطيع جدة أن تهرب من رحمة الله؟!.

– مستشار قانوني