قال صاحبي: أصبحت بطولة العالم لكرة القدم مالئة الدنيا وشاغلة الأرض والفضاء، بالتحليل والتفسير، والتعليق وصناعة النكتة، والمنافسة على كسب المراهنات، والأهم حضور عربي مشرف، ولكن اللافت أن هذه المنافسة الأممية حملت عدداً من الرسائل السياسية، فهل هذا استثناءً من بقية المنافسات المماثلة، وما أبرز تلك الرسائل، وهل سيكون لها تأثيراً حقيقياً في المشهد السياسي؟
فرضت الرياضة حضورها الطاغي على مجريات الحياة، السياسية، والاجتماعية والاقتصادية، وصار المستطيل الأخضر يشهد أكثر من مباراة واحدة في الوقت عينه، وتحول إلى نافذة للتعبير، وإلى حلبة امتدت إليها الخلافات والصراعات السياسية بين الدول، بل إنها امتدت إلى خارج الملعب، سواءً بين الجماهير، أو حتى المشاهدين على المدرجات أو من خلف الشاشات.
فعلى سبيل المثال؛ اثار ارتداء رئيس وزراء المجر وشاحاً رياضياً، في مباراة بلاده الودية مع اليونان، بسبب وجود خارطة مملكة المجر الكبرى على طرفي الوشاح، مما تسبب في إدخالها في أزمة دبلوماسية مع خمس دول، رومانيا وصربيا وأوكرانيا وكرواتيا وسلوفاكيا كانت بعض أراضيها جزء من إمبراطورية المجر قبل أن تقتطعها معاهدة تريانون.
داخل الملعب، لفت الأنظار امتناع لاعبوا إيران من أداء نشيدهم الوطني، دعماً للاحتجاجات الشعبية الرافضة للممارسات القمعية لنظام الملالي داخليا، ولإهداره مقدرات الشعوب الإيرانية على مقامرات سياسية في إنشاء ورعاية التنظيمات الإرهابية، وبهذا تحول الأستاد لساحة أخرى للمواجهة بين المواطن الإيراني وبين النظام المستبد، في رسالة لا ينقصها سوى صحوة الضمير العالمي.
أيضاً لفتني بكاء لاعب المنتخب الإيراني واحتضان زميله لاعب المنتخب الأمريكي، وكأنه يستنجد به، ولسان حاله يردد بيت المتنبي:
ومن نَكَدِ الدّنْيا على الحُرّ أنْ يَرَى عَدُوّاً لَهُ ما من صَداقَتِهِ بُدُّ
رغم الصداقة الوثيقة، والغير معلنه بين نظاميهما السياسي، ومحاولة إعلام المرشد والدائرين في فلكه، حتى لولم تكن لهم انتماءات رياضية؛ تحويل المنافسة الكروية، إلى موقعة عسكرية، في محاولة لاستثمار تشويه صورة الشيطان الأكبر لدى الشعوب الإيرانية، والمسلمة، والتي نجح في اقناع كل من يعوزه فهم براغماتية سياسة الملالي، بهذه العداوة الصورية، حتى بنت عوام هذه الشعوب أبراجاً من الكراهية لكل ما هو أمريكي، لكن المصائب والأزمات ما تلبث أن تكشف الأقنعة وتسقطها، وتستدعي المشتركات الإنسانية بين الشعوب، مهما كانت قوة التضليل الإعلامي والايديولوجي.
حرب أخرى من نوع خاص جرت داخل الملعب، من خلال تجاوز بعض الفرق، أو الحضور، الترويج لسلوكيات شاذة، وفرضها بالقوة على مجتمعات مختلفة في هويتها، ولكنها منحازة لفطرتها، هذا السلوك تنبع خطورته من جانبين، أحدهما مصادمة قيم المجتمعات الرافضة لتطبيع الشذوذ، كالمجتمعات المسلمة على وجه التحديد، والأخرى عدم احترام أنظمة البلد المضيف، وتجاوزها، بما يستوجب العقوبات، هذا التجاوز اتى من مجتمعات تزعم أنها تحترم القوانين، وعلى أقل الأحوال الالتزام بقادة يا غريب كن أديب.
وهنا علي أن استحضر بكل فخر واعتزاز، البعد الذي تطرق له الأمير محمد بن سلمان في كلمته، في قمة جدة مع الرئيس الأمريكي بايدن، وهو أن القيم تورث ولا تفرض، فلكل امة قيمها الخاصة التي تعتز بها، وتومن بها، وتدافع عنها، ولا ترغب في التنازل عنها فضلا عن المساس بها، وربما كانت بعض الخلافات الناشئة بين الدول بسبب عدم فهم الاختلاف بين الثقافات، وأن من حق كل مجتمع أن يعيش وفق هويته وقيمه الخاصة.
خارج الملعب:
كان هناك معركة إعلامية، نقلتها بعض وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، بين المواطن العربي، والوجود الإسرائيلي، مما يثير الكثير من الرسائل التي أيقظت الشعور العربي المشترك، تجاه قضيتهم الأولى فلسطين، واستطاعت التعبير عن هذا الموقف، من خلال رفض إجراء مقابلات مع الإعلام الإسرائيلي، ورفع العلم الفلسطيني، واطلاق عبارات عدم الترحيب بهم، وفي اعتقادي أن هذه الرسائل الاتصالية العربية على بساطتها، ستفرض على إسرائيل إعادة تقييم استراتيجياتها الخاصة بالاندماج في الوطن العربي.
وعلى امتداد عمر المنافسات الرياضية، وعلى اختلاف أنظمتها ومسمياتها، كانت السياسة حاضرة وفاعلة، ومنها على سبيل المثال، الدعوة لمقاطعة كأس العالم في الارجنتين عام 1978، ومقاطعة واشنطن الدبلوماسية لدورة الألعاب الأولمبية في بكين، وسعي الدول الغربية لممارسة ضغوطهم المختلفة على الفيفا لطرد روسيا من عضويتها، وأخيراً يجب ألا يغيب عنا فضيحة خيخون، التي كانت مؤامرة بين المانيا والنمسا لحرمان الجزائر من الوصول لدور الستة عشر!!.
وأخيراً انتقل التشابك بالأيدي والركل بالأقدام، والتنمر اللفظي من الملعب إلى بعض العواصم الغربية، وخصوصاً تلك التي تعرضت منتخباتها للخسارة المشروعة في ميدان المستديرة، ولكنها غير مقبولة في إعلام وعقلية الكثير من أبناء تلك الدول، رغم زعمهم المتكرر بتحضرهم وتقبلهم الأخر، والتزامهم القوانين المحلية والدولية.
قلت لصاحبي:
كشف المونديال العالمي ما فشل غربال الإعلام بحجبه، أو تشويهه، فالشعوب المسلمة والعربية، أبانت عن حبها للسعودية، ودعمها ومؤازرتها لمنتخبنا، كما أثبت الشعب السعودي أنه قوة ناعمة تمتلك مقومات القبول والترحيب والتعايش مع الآخر.