تأخذني الذاكرة لبيتنا القديم بتفاصيله الدقيقة، وفي ذاكرتي رائحة المكان وفي النفس حنين الذكريات، صور كثيرة لازالت عالقة بمخيلتي.
البيئة المكية تؤثر في ساكنيها وتترك أثرًا في نفوسهم، خاصة أن بيئتها غنية بتراث عمراني ونسيج اجتماعي غنيٍ بتراثه وتاريخه، حيث (الرواشين) المنقوشة بالزخارف الخشبية والأبواب العالية المنحوتة المحاطة ببراويز مزخرفة، وفي الداخل ردهة طويلة تُسمى (الدهليز) بين باب البيت الخارجي والدرج المؤدية لطوابق البيت.
ذكر أنني في طفولتي كانت صفوف المصلين، تمتد من المسجد الحرام في صلاة الجمعة، لتصل سوق السويقة، فنصلي مع المصلين في دهليز البيت، وفي مواسم الحج لا نجد مكانًا للصلاة ولا في سوق السويقة.
تصاميم العمارة الحجازية تتفق مع العادات والتقاليد والنسيج الاجتماعي، وتأخذ في الاعتبار خصوصيات النساء واحتياجاتهن، فهي تصاميم تلبي احتياجات الأسرة، وتتشكل جمالياته بأثاثه الشرقي المميز، الذي يظهر مهارة المرأة الحجازية وذوقها في ترتيب وتزيين ديكور المنزل، بسجاجيده الملونة ومفارشه البيضاء وستائره (البردات)، في مناخ يوفر لجميع أفراد الأسرة الراحة والخصوصية. العمارة الحجازية لها خصوصيتها، ومن أراد أن يتعرف على مثال حي لها بعد أن هذا التراث المعماري أثر بعد عين، بعد أعمال توسعة الحرم المكي وإزالة الأحياء التي كانت تحيط بالحرم، عليه أن يقوم بزيارة لمنزل الدكتور المهندس سامي عنقاوي في جدة، الذي يعتبر متحفًا يقصده الزوار الأجانب لمعرفة الطرز المعماري الحجازي الأصيل، قام بزيارته رؤساء بعض الدول الأوروبية السابقين.
تتكون بيوت مكة كغيرها من البيوت الحجازية من عدة طوابق، في الطابق الأول الديوان وهو مكان أعد لاستقبال الضيوف من الرجال خاصة، وبعض الدواوين لها غرف داخلية صغيرة لمبيت الضيوف، ومن ثم ما يُسمى بالمَقعَد، منه ما هو صغير كجزء من الديوان، ومنه الكبير الذي يتسع لعدد أكبر من الضيوف ولهذه (المقاعد) رواشين مطلة على الخارج. في ديوان بيتنا يذكر بعض المؤرخين أن جدي، وهو أحد علماء مكة، كان يلتقي طلاب العلم وأصحابه من العلماء في الديوان، كما كانت تُعقد فيه أيضًا مجالس السيرة النبوية والذكر، وقد عهدته في طفولتي مكانًا للقاء الأصدقاء ومسامرات (بشكات) الكبار، وفي الطابق الثاني، كان هناك المجلس وهو مُعد لاستقبال الضيوف، وغالبًا ضيوف النساء، يليه ما يُسمى بالصُّفّة مكان يتسع لضيوف أقل ويستخدم في الاجتماعات العائلية إذا كانوا من الرجال والنساء فيكون الرجال في المجلس والنساء في الصُّفة. أما المبيت فهو غرفة صغيرة قريبة من السطوح في المنزل وأغلب الظن أنها كانت تستخدم للخلوات الزوجية؛ حيث كانت العائلة تنام في أسطح المنازل في أيام الصيف والمواسم.
ما أجمل تلك الطقوس التي لازلت أتذكر أدق تفاصيلها، بدءًا من استيقاظنا صباحًا قبل الذهاب إلى المدرسة، على أصوات أحد مشاهيرالمقرئين (عبد الباسط عبد الصمد، محمود الحصري، الشعشاعي) في ترتيل روحاني، إضافة إلى أشهر المقرئين في الحجاز (الداغستاني، الآشي، المقادمي وسعيد محمد نور)، الذين كانت تستفتح إذاعة مكة برامجها بتلاواتهم، وتسكتمل تلك الطقوس الصباحية، برائحة القهوة التركية، ذلك الكيف الذي يبعث في النفس الحيوية والنشاط، والأمل بإشراقة يوم جديد، وفي الذاكرة صورة جلسة كيف أخرى، وهي بَسطَة الشاي، البشتختة (صندوق من الخشب توضع عليه صواني الشاي والفناجيل الصغيرة وعلب الشاي والسكر)؛ إضافة إلى إبريق الشاي (البراد) وبجانبها السَّمْوَار “أصل الكلمة تركية” تعني غلاية الماء، وللشاي، مناسباته وأوقاته، وهي الضحى والعصر وقبل العشاء، كانت الأسرة المكية أقارب وأحبة وأصدقاء يجتمعون في جلسة الشاي يتجاذبون أطراف الحديث الذي كانت تتخلله الحكايات والطرائف والحزازير، وخاصة الجلسات النسائية في أوقات الضحى و”المغربية”.