تعيش العلاقات الصينية العربية والخليجية والسعودية – على وجه الخصوص- أوج ازدهارها التاريخي مما يعيد للذهن طبيعة العلاقات التاريخية بين اثنتين من أعرق الحضارات الإنسانية، وأنا أومئ هنا إلى الحضارة العربية والحضارة الصينية. ويعد المثل الشهير “اطلبوا العلم ولو في الصين”، الذي رقاه البعض ليكون حديثا مرويًا عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن كثيرًا من العلماء ضعفه لعلل يعرفها رواة الحديث، لخير دليل على عمق التبادل التجاري والمعرفي والحضاري تاريخيًا.
وغير خاف على أحد أنه منذ آلاف السنين أبحرت قوافل الحرير الصيني متنقلة بين موانئ الصين والخليج العربي وبحر العرب والبحر الأحمر، في تبادل تجاري امتد لأكثر من ثلاثة آلاف عام. وتشير مصادر عديدة إلى أن أكثر من 17 طريقًا تجاريًا عُرِفَت بطرق التجارة القديمة اخترقت الجزيرة العربية منذ آلاف السنين، ولا يزال بعضها حيًا يمكن الاستناد إليها كشواهد تاريخية كبيرة على عمق العلاقة بين الطرفين، وهي علاقة امتدت حتى الوقت الحالي. وذائع مستفيض أن البضائع كانت تنتقل من بلاد العرب إلى الموانئ الصينية، فكانت شاهدًا على عمق التبادل التجاري والعلمي بين العرب والصينيين والتي لا تزال ممتدة إلى الآن، وتلك العلاقة أثمرت فيما بعد ما سمي بـ “طريق الحرير”.
ولم تقتصر هذه العلاقة بين الطرفين على التبادل التجاري فحسب، بل امتدت إلى التبادل المعرفي والعلمي جنبًا إلى جنب مع الحركة التجارية. فقد أخذ الصينيون عن العرب الكثير من العلوم في الرياضيات والجبر والفيزياء والفلك والضوء وانكساراته، وكذلك الفن بشتى نواحيه، خصوصًا ما يتعلق ببعض الآلات الموسيقية كالعود والناي الشهيرين لدى العرب. في حين قدمت الحضارة الصينية للعرب الطب والتنجيم، وبعض المعارف والفنون الأخرى.
وتحول الأمر من تجارة طريق الحرير التاريخية التي شكلت نهرًا ثقافيًا وحضاريًا، وليس فقط تجاريًا إلى مبادرة مهمة اليوم يتقدم بها الصينيون للعرب والخليج وهي مبادرة “الحزام والطريق” فمنذ مدة ليست يسيرة والصين تخطب ود الدول العربية، وتسعى إلى تعزيز مشاركة الدول العربية في مبادرة “الحزام والطريق”. ففي أغسطس 2021، أكّد الرئيس الصيني شي جين بينغ أنَّ بلاده على “استعداد للعمل مع الدول العربية لبناء (الحزام والطريق) بشكل مشترك وبجودة عالية، ودفع الشراكة الاستراتيجية الصينية العربية إلى مستوى أعلى”، ونبَّه إلى أنَّ “الصين والدول العربية، المرتبطة بتاريخ طريق الحرير القديم، شركاء طبيعيون لمبادرة (الحزام والطريق)، ولديهم تكامل ملحوظ”. (نص عبارات الرئيس الصيني)
ومما لا شك فيه أن حجم التبادل التجاري بين الدول العربية والصين سوف يتصاعد تدريجيًا وبشكل كبير. وعلى مستوى المملكة العربية السعودية التي قادت بكل جدارة واقتدار في مطلع ديسمبر 2022 ثلاث قمم محلية وخليجية وعربية لفتت أنظار العالم والمتابعين شرقًا وغربًا إلى القدرات القيادية العالية وإدارة وحنكة سمو ولي العهد القائد الملهم محمد بن سلمان وبحرص وإشراف مباشر من قائد هذه البلاد خادم الحرمين الشريفين، يحفظهم الله، تم توقيع 35 اتفاقية بين وزارات مختلفة في المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية لعل أبرزها الاتفاقيات حول الطاقة والتكرير والاستثمار والتي تشكل نصيب الأسد كما شملت مذكرات التفاهم اتفاقيات أخرى في البناء والإسكان.
وحتى وقت قريب تبتعث وكالة الابتعاث بوزارة التعليم السعودية 373 طالبًا وطالبة إلى مختلف الجامعات الصينية، حسب إحصائية أصدرتها وكالة الابتعاث للدارسين والمبتعثين. أما أبرز التخصصات التي يدرسها السعوديون في الصين، بحسب الملحقية الثقافية في الصين، فهي: “طب الأسنان، والهندسة والصناعات الهندسية والمعمارية والمعلوماتية، والقانون والفنون، والعلوم الفيزيائية والاجتماعية والسلوكية، فضلًا عن تخصصات في الطب والرياضيات والإحصاء والدراسات الإنسانية”. ومن المتوقع أن يتزايد أعداد المبتعثين في الفترة القادمة حيث وقعت وزارة التعليم السعودية اتفاقية مع الجانب الصيني في الزيارة الأخيرة للرئيس الصيني.
ختامًا، إن كلا البلدين الصين والمملكة العربية السعودية يدركان أهمية التعاون الكامل والشامل للطرفين، بل إن قيادة المملكة العربية السعودية وزعامتها الخليجية والعربية لهذا التعاون الاقتصادي والحضاري لهو دليل على أن الطرفين يعملان بعزم لمد جسور التعاون التاريخي وإعادة بناء القوى والتوازنات العالمية التي تحقق مصالح مشتركة مع الحفاظ على هوية الطرفين واضعة نصب عينيها ما يفيد الإنسانية ويبني السلام العالمي متمثلة في مقولة الأمير محمد بن سلمان “تؤسس القمة العربية الصينية لمرحلة جديدة بين دولنا” كما ختم ولي العهد أعمال القمة بمقولة: “نؤكد للعالم أجمع أن العرب سوف يسابقون على التقدم والنهضة مرة أخرى، وسوف نثبت ذلك كل يوم” وهي العبارة التي أشعلت حماس المراقبين لنهضة عربية غير مسبوقة بمشيئة الله.
– جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل