في مقال له يُسمَّى ” إدجار ألآن بو..حياته وآثاره ” يقول الأديب الفرنسي الأشهر شارل بودلير، صاحب أزهار الشر: إن من بين حقوق الإنسان التي تحرص حكمة القرن التاسع عشر على تعدادها مرارًا وتكرارًا حقيْن هامين تمَّ تناسيهما: الحق في التناقض والحق في الرحيل. لكنّ المجتمع يعتبر الراحل باختياره وقحًا، ولو استطاع لأنزل العقاب حتى ببعض الرفاة وهي رميم. كأنه ذلك الجندي المسكين المصاب بمرض مصاصي الدماء، والذي يثيره مشهد أي جثة إلى حد الجنون. وعلى الرغم من ذلك في وسعنا القول تحت ضغط بعض الظروف، وبعد المراجعة الدقيقة لبعض التنافر من الإيمان بدوجمات معينة، كالإيمان بالتقمص، ـ يمكننا القول ـ دون حماسة فضفاضة، ودون لعب بالكلمات، إن الانتحار هو أقرب فعل في الحياة إلى المعقول. هكذا يتشكل لنا فيلق من أشباح عديدين يسكنون مخيلاتنا بحميمية ويلمون بنا وكلٌّ منهم يمتدح راحته الراهنة مزيناً لنا قناعاته. إذن حين يُحْكِمُ ليل اليأس ظلامه وظلماته علينا، ربما ننظر إلى عبارة [ لا حياة بلا أمل ] نظرةً تهكميّة ساخرة، إلا أن الحقيقة غير ذلك. فالحياة التي لا يُغلّفها الأمل أو يكون هو غازها الطبيعي الذي يُسيّرها، هي حياة لا معنى لها. بل هي للموت أقرب منها إلى الحياة. بل قد يصل الأمر إلى أبعد من ذلك بكثير، فالإنسان الذي يفقد الأمل ربما يفكر في إنهاء حياته بنفسه، أي يُقْبل على الانتحار وربما يُنفّذه فعليًّا، خاصةً وأن فقدان الأمل يعني بالنسبة له وقتها أن كل السُّبل قد سُدَّتْ، وأن كل النوافذ قد أُوْصدتْ، وأن الأبواب جميعها قد غُلّقتْ، ولا مفر من الوقوع فريسةً بين براثن اليأس أوالقنوط، الذي يؤدي لا محالة، إلى اتخاذ قرار بمغادرة الحياة. نعم..في مثل هذه الظروف قد يلجأ بعضنا إلى الانتحار ظانين أنهم بهذا قد حلُّوا مشكلاتهم، أو أنهم قد تخلصوا منها. لكن الحل ليس في الانتحار، الحل الأكيد في امتلاك الأمل، الذي يشير دائمًا إلى أن الغد هو الأفضل ” رغم ما في اليوم من ظلمات “، وأن كل الظروف الصعبة، مهما تكن درجة صعوبتها، سوف تتلاشى وتصبح هي واللا شيء سواء. هنا أيضًا أتذكر مقولة رائعة قرأتها في رواية تُسمَّى ” العالَم ” للكاتب الأسباني الشهير خوان خوسيه مياس، يقول فيها: بالتأكيد داخل وحشة كل يومٍ، تولد لحظات سعادة غير محتملة. وكذلك قرأت على ظهر غلاف كتابٍ للدالاي لاما عبارة تقول: يجب ألا تفقد الأمل تحت أية ظروف. حقًّا ليس علينا، أو لنا، أن نفقد الأمل، أو أن نُخْرج أنفسنا من عالمه، بمجرد أن تحلّ بنا أزمة ما، أو نقع فجأة، بين أنياب مأزق ما. بل علينا أن نتخذ مما يمر بنا، من أزمات ومطبات، مطيةً نَعْبر على ظهرها إلى كون آخر، نعيش فيه آملين في ما هو أحسن وأفضل، محاولين بأنفسنا الصلبة، لا الهشة، أن نُغيّر من واقعنا الصعب قدْر ما نستطيع، وأن نثق في قدراتنا، كما علينا أنْ ندرك أنَّ الظلمات، مهما اشتدت درجة سوادها، لابد وأنَّ بصيص أملٍ سيأتي، لتنقشع هذه الظلمات شيئًا فشيئًا. نعم..ثمة نور سيأتي. فقط علينا أن نفتش عن الكُوّة التي سيطل منها، أن ننتظره إنْ تأخر قليلًا، أن نتحلى بالصبر في مواجهة صعوباتنا، ألا نفقد الأمل حتى لا نُحوِّل حياتنا إلى مغارة مُصْمتةً، لا نوافذ ولا مخارج فيها. مغارة يموت كل من يدخلها بالتصوير البطيء. ولنعلم أنه بأيدينا، نحن فقط، يمكن أن نجعل من حياتنا فردوسًا أعلى، ننعم فيه بملذات شتى، ونتغلب على كل ما يعترض طريقنا من عوائق وعقبات، وبهذا تسير القافلة، وإن أصابها الظمأ والجوع، وإن حلَّ بها القحط والجفاف. وكذلك بأيدينا نحن فقط أن نجعل من حياتنا جحيمًا سرمديًّا، نكتوي بسعيره، ونذوق كل العذابات والآلام، لحظة بلحظة. يكفينا فقط، أن نتصالح مع أنفسنا، ومع أحوالنا وظروفنا، ونحن نسعى قدر الإمكان نحو مواصلة رحلة الحياة، ونحن نرتدي زيّ الأمل، مُطْلقين الرصاص على أي جثة يأسٍ أو قنوط، تظهر أمام خطواتنا. لنتذكر دائمًا: يجب ألا تفقد الأمل تحت أية ظروف.
0