حوار أجراه: محمد بربر
ناشط ثقافي بامتياز، أديب ظل مقيما في مدينته، لا يبارحها إلا قليلا، بعد خمسة دواوين انتقل بهدوء من الشعر إلى السرد؛ فأصدر 18 مجموعة قصصية. حوّل جلسة المقهى إلى ندوة مفتوحة. يؤمن أن الكاتب له دور اجتماعي وفكري ناهيك عن المعتقد الأدبي حيث انحيازه الواضح للطبقات الشعبية. نلتقي مع الكاتب سمير الفيل، الذي ارتبط اسمه بمصطلح “أدب الحرب”.
في مجموعاتك الصادرة حديثًا، هناك انحياز للمهمشين والمهزومين.. كيف تقرأ ذلك؟
ـ أخرجت للمكتبة العربية مؤخرا خمس مجموعات قصصية في توقيتات متقاربة ، هي “الأستاذ مراد”، و” أتوبيس خط 77″، وحذاء بنفسجي بشرائط ذهبية”، إلى جانب “فك الضفيرة”، و”ليمون مر”، وأعتقد أن أغلب النصوص تحاول فك شفرة الأحداث اللاهثة في المجتمع المصري، مع التحولات التي مست الاقتصاد، والهجمة الشرسة للتيارات السلفية على المجتمع المدني، ووجود ظهير معاد للتحديث سواء في القرية أو المدينة.
من خلال أحداث واقعية اقتربت كثيرا من إشكالية العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمعات يغلب عليها التحفظ، وتميل لتهميش المرأة ونهب حقوقها، وبسط هيمنة القوى الرجعية على العائلة المصرية التي يناوشها الفقر من جانب، والرغبة في العودة لكهف الماضي من جانب آخر. تلك المجموعات قدمت اجتهادها في معالجة هذه القضايا وبشكل فني لا مباشرة فيه.
– قدمت نصوصًا عديدة في “أدب الحرب”، هل كان مشروعك المبكر؟
ـ حدث الأمر عن طريق المصادفة البحتة، أجلت دفعتي ثلاث سنوات ولم تلحق بالعمليات القتالية في أكتوبر 1973، بل جندت في السنة التالية، واقتربت جدا من المقاتلين في الكتيبة 16 مشاة، وتنقلت معهم في عدة مناطق، منها: “سرابيوم” و”الدفرسوار” و” فايد ” وصولا إلى” تبة الشجرة ” بسيناء.
وجدت أنه من الضروري أن أكتب عن الأحداث بشكل عميق، عن المحارب لا السلاح، عن الشق الإنساني في الحرب، وهو ما سجله جورج جحا في تقرير وكالة أنباء ” رويتر” عندما تناول مجموعتي ” شمال. يمين”، فكتب عنها 2007، وقبلها مجموعتيّ “خوذة ونورس وحيد” و” كيف يحارب الجندي بلا خوذة؟”.
انتبهت مبكرا لفكرة أن الحرب يخوضها أناس بسطاء من قلب هذا الشعب، وغالبا يخرجون بعد انتهاء العمليات الحربية خاليي الوفاض، وقد سجلت ذلك أيضا في روايتين، هما: “رجال وشظايا” و”وميض تلك الجبهة”. أنا مهتم بالإنسان أينما وجد، وأبحث عن همومه, وأنقب عن المسكوت عنه، وهو بالمناسبة كثير.
* من الشعر إلى السرد.. كيف عالج سميرالفيل تجريب وتنويع أدواته؟
ـ كتبت الشعر في توقيت صعب مع حرب الاستنزاف ( 1969ـ 1970) في تلك الفترة قدمني العم محمد النبوي سلامة لأشارك بقصيدة في مقهى شعبي بمدينة دمياط، بعدها بأسابيع استدعى أنيس البياع صديقه عبدالرحمن الأبنودي، فقدمني في جرن قمح اجتمع فيه مقاتلون من كتيبة عسكرية. في تلك الأجواء حيث طلى الزجاج بالأزرق وجدتني منشدا لقصيدة العامية قبل أن التقي سيد حجاب سنة 1974 وأدخل بيته، ويكتب عني في مجلة” الشباب”.
في أكتوبر 1974 نظمت مجلة “صباح الخير” أول مسابقة في أدب الحرب، وفازت قصتي بالجائزة الأولى ونشرت بالمجلة. في العام التالي تفوز قصة أخرى بنفس المركز ليرتبط اسمي بمصطلح أدب الحرب. كنت حريصًا على أن انفلت من سطوة البروباجندا، وأن أكتب عن الإنسان، تجلى ذلك في استعانتي بما كتبه العلامة سليم حسن في “مصر القديمة”.
ينتبه إبراهيم عبدالمجيد لقصة “الساتر” فيحملها من مجلة” الثقافة الجديدة” لتنشر بالعدد الثاني من “إبداع” دون أن يعرفني، وهو جميل لا أنساه لهذا الروائي الكبير. وهناك واقعة مهمة في هذا الشأن: كان مؤتمر أدباء مصر انعقد بمحافظة المنيا، ألقيت قصيدة “النول” استمع صديقي محمد العتر لحديث دار بين الدكتور عبدالقادر القط والدكتور سمير سرحان، يقول فيه أحدهما للآخر “هذا النص الشعري يقترب كثيرا من طبيعة السرد”.
وحين صدر ديواني الأول” الخيول” في العام 1982 حوله محمد الشربيني إلى عرض مسرحي بعنوان “غنوة للكاكي”. كنت معروفا كشاعر بينما تسري في دمائي همهمات مكبوتة لأبطال قصصي التي أدونها على استحياء، وتظفر بالجوائز الأولى على مستوى البلاد.
* المقهى الذي تحول على يد سميرالفيل إلى منتدى ثقافي.. كيف تنظر لهذه التجربة؟
ـ حتى سنة 2011 لم أكن أجلس على أي مقهى، وحين خرجت للمعاش وتوفر لي الوقت، وجدت في المقهى فرصة حقيقية للتنقيب عن حيوات البشر وسماع حكاياتهم، وأنا أتنقل في الأسواق والحدائق وأذهب لشواطيء بحرية تلمسا للحكايات في طورها الجنيني . لقد مدني المقهى بأحداث يندر أن أعرفها دون سماع الآخرين. كذلك فقد حولت المقهى لجلسة أدبية لقراءة النصوص الجديدة من شعر وقصة وفصول من روايات. كل جماعة أدبية يمكنها فعل ذلك بشكل مدروس حتى لا يضيع العمر في ثرثرة مجانية.
أما عن علاقتي بدمياط فهي علاقة حياة؛ ففيها مولدي وعملي، هي البيئة التي أفهمها وأعرف شخوصها، وألعب معهم لعبة الفن بقدر من الأريحية، متأملا آلامهم وأحلامهم، وهو ما تجلي في مجموعات منها: “الأبواب” و”هوا بحري”؟
ـ كيف تفتقت قريحتك للتعامل مع المكان بتلك الكيفية التي رأيناها في “هوا بحري”؟
ـ أخضعت المكان لسؤال الفن، فكان أن سلطت العدسة على لقطات مفردة لكنها عميقة الدلالة، كتبت عن محاربين فقدوا أطرافهم، وعن نساء منكسرات غاب عنهن الزوج أو الابن، رأيتهن يجلسن في انتظار العودة المستحيلة، عدت لحروب ماضية كانت أصوات ارتطام القذائف تتوالى على البيوت لتهدم أحلاما لبنات حسناوات، وشباب لهم ورش مفتوحة جلبا للرزق. كما توقفت أمام الخرافة في مجموعة من النصوص التي تعاملت مع فكرة الدجل والشعوذة، وهي أمور لا تكاد تختفي في عالم مسكون بالفواجع.
* وماذا عن ” صندل أحمر”.. إنها نصوص تتعامل مع فترة مهمة في حياتك العملية؟
ـ بالضبط، هي فترة عملت فيها كعامل في محل أحذية، وداخل النسيج الاجتماعي عثرت على إجابات لأسئلة الوجود في وقت مبكر. وعموما فالمكان يمثل لي بوابة أولى للولوج إلى قلب النص حين يشتبك الذاتي بالموضوعي.
عندما يزورني صديق من بلد آخر اصطحبه إلى عزبة البرج، أو منطقة الجربي، أو شجرة المظلوم ليرى بعينيه العتبات السردية التي ولجت من خلالها لفضائي السردي. أنا مدين للواقع ولمدينتي الحرفية التي تعلمت منها قيمة الوقت.
* ماذا تضيف الجوائز للأديب، وهل نلت التكريم الذي تستحقه؟
ـ حصلت على جوائز أولى مع كتابة للقصة القصيرة أعوام: 1974 ، 1975 ، 1976 ، وخاصمني الشعر تماما. أنا مؤمن بأن الجوائز لا تعلن عن تفوق ما، بل يقف تأثيرها عند حدود معينة مثل طبطبة على الكتف أننا نراك. هي وسيلة مساعدة للكاتب كي يشعر بنوع من الأمان النسبي لكنها لا تمثل في حد ذاتها قيمة مطلقة. حزت جوائز منها جائزة الدولة التشجيعية، وجائزة اتحاد الكتاب، وجائزة ساويرس “فئة كبار الكتاب”.
كنت سعيد الحظ بهذه الجوائز غير أن هناك أنواعا أخرى من التكريم : احتفاء زملائي بمنجزي الأدبي لوصولي عتبة السبعين مع مواصلة مشواري الأدبي، وتكريم البرنامج الثقافي لي بالقاهرة، ثم تكريم صندوق التنمية الثقافية بعزبة البرج.
* كيف يري الأديب سميرالفيل الحركة الأدبية في مصر عموما، والسردية خصوصا في الوقت الجاري ؟
ـ لست مخولا بالحديث عن الحركة الأدبية؛ فهناك أسرار خفية لا أعلمها، هناك ذيوع للرواية، وأسماء تتقدم المشهد لديها ما تضيفه منها أعمال: الدكتور محمد المخزنجي والدكتور محمد المنسي قنديل، وعادل عصمت، والدكتور أحمد الخميسي إلى جانب الدكتور محمد ابراهيم طه، وأحمد القرملاوي، وأشرف العشماوي، والدكتورة ريم بسيوني، وطارق إمام، ومحمد عبدالله الهادي، وفكري داود، وهناك عودة باهرة لفن القصة القصيرة بعد سنوات من التوقف فلم يكن ظاهرا سوى قلائل منهم سعيد الكفراوي من مصر، وزكريا تامر من سوريا.
المتغير الجديد أنه لا توجد نفس المعايير التي كانت تضبط حركة الإبداع، وهناك ظهور لافت للجوائز العربية، وتألق أسماء جديدة تكتب بطريقة مختلفة. وأحب أن أقف أمام ظاهرة ازدهار المسرح سواء في مهرجانات رسمية أو عبر اجتهادات مؤسسات المجتمع المدني.
أنا أيضا مهتم جدا بحركة الفن التشكيلي وأتابع المعارض الجديدة.
* كيف ترى دور النقد ومؤسساته في حركة الإبداع؟
ـ تابعت الدور النقدي الهام الذي كان يقوم به محمد مندور، وبكل تأكيد كان لدينا نقاد عظام من طراز الدكتور عبدالمحسن طه بدر، والدكتور عبدالمنعم تليمة ، والدكتور علي الراعي.
تشهد الساحة حاليا نبوغ عدد لا يستهان به من نقاد متمرسين لديهم ما يقدمونه، أمثال: د. حسين حمودة ، ود. محمد بدوي ، ود. محمود الضبع، ود.هيثم الحاج علي ود.خيري دومة، ود.السيد فضل، وسيد الوكيل، وشوقي بدر يوسف، وإبراهيم حمزة هؤلاء وغيرهم يضيئون المشهد النقدي العربي بعطاء متفرد.
* عرف المتابعون عنك غزارة الإنتاج خاصة فيما يخص القصة القصيرة. ما آخر مشروعاتك؟
ـ ثلاث مجموعات قصصية كتبتها بعد جانحة كورونا، كنت أحاول السباق مع الزمن لأكتب انطباعاتي حول قضايا أرى أنني لم أنته منها بعد. المجموعات ستصدر خلال هذا العام وهي “هروب صغير”، و”دمى حزينة”، و” قهوة على الريحة”. أدفع الموت بالكتابة، محاولا تخطي تلك العتبة المظلمة التي أعرف أنها تترصدني .
* كيف يمكن للقصة القصيرة الإحاطة بقضايا العصر ومشكلات المجتمع؟
ـ القصة القصيرة فن نبيل، يصعب التجديد فيه إلا للمواهب الأصيلة، فمن خلال مساحة صغيرة تنصب خيمة للحدث عبر زمان ومكان محددين، تختار قضيتك التي تقدمها من خلال لغة مقتصدة، متقشفة. لديك اختيار منضبط جدا للصياغات بحيث لا تلعب بالعواطف أو تقوم بقفزات في الفراغ.
القصة القصيرة تحتفي بالمهمشين كما جاء في “الصوت المنفرد” لفرانك أوكونور، لكن تلك القماشة التي تختار ملمسها ولونها ودرجة سمكها تمنحك كما هائلا من التوافيق وفنون الاحتمالات لتبسط خطابها الجمالي على مهل فتؤثر في المتلقي بشكل ساحر بحيث يصعب الإفلات من كمائنها العميقة .