تشهد المؤسسات والمنظمات المعاصرة تطورًا كبيرًا لم تشهده من قبل، ولقد شمل ذلك التطور جميع جوانب الحياة المهنية؛ ومع تعاظم استخدام التكنولوجيا التي أصبحت وسيلة رئيسة لتحقيق التنمية أضيف للحياة العملية طابع المادية فتفشت البرجماتية بشكل أثر في طبيعة العلاقات الاجتماعية وطغت الحياة المادية في المجتمعات المختلفة واندثرت القيم الأخلاقية، حتى بات من النادر الاحتكام إلى القيم الروحية والأخلاقية في سياق التعاملات الشخصية والاجتماعية والمؤسسية.
وتمثل المنظومة الإدارية في أي مؤسسة جزءًا أصيلًا من المنظومة الاجتماعية الكبرى، ومن ثم تتأثر هذه المنظومة بالتركيبة الاجتماعية السائدة في المجتمع وتتشكل وفقًا لأفكار ومعتقدات وقيم المجتمع. ولقد نتج عن سيطرة الاتجاه المادي تجاهل القيم والمثل العليا وظهور شيء من غلبة الأنا وتغليب المصلحة الشخصية وهو ما يعد من أوجه الانحراف الأخلاقي الذي أصبح واضحًا في المؤسسات التجارية والصناعية والتعليمية بحيث غابت قيم الحق والخير والعدل.
إن للأخلاق الإدارية دورًا مهمًا في توجيه السلوك الإنساني داخل المؤسسات، لما تمثله هذه الأخلاق من أهمية كبيرة إذ يرجع الفضل إليها في ارتقاء وتطور المؤسسات التي تسود فيها منظومة القيم الأخلاقية.
وليس بدعًا القول إن الأخلاق التي دعا إليها ديننا الحنيف لا تنفصل بتاتًا عن الأخلاقيات الإدارية فالأخلاق كل لا يتجزأ، إنها تشبه المركب الكيميائي الذي يتفاعل ككتلة واحدة؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن واحدة من أهم الأخلاق الإدارية التي يجب أن تكون حاضرة في أذهان العاملين في أي مؤسسة ومنظومة عمل فهم واستيعاب مفهوم تضارب المصالح في بيئة العمل وتأثيراتها بين الأطراف. ومعنى تعارض المصالح التي نقصدها هنا حالة تتعارض فيها اهتمامات أو أهداف طرفين مختلفين؛ ويكون فيها الشخص في وضع يمكنه من جني منفعة شخصية من الإجراءات أو القرارات المتخذة بصفته الرسمية.
وهذا التسخير الذي يقوم به طرف لصالحه استثمارًا لوضعه الإداري عند تعارض المصالح ضربٌ من أنواع «الفساد» الإداري وأشدها فتكًا بأي منظومة إذ يؤدي إلى تعطيل التنمية ومصادرة الحقوق وإلحاق الأذى بالآخرين.
و المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وسمو ولي عهده تدعم جهود مكافحة الفساد على المستويين المحلي والدولي، اذ تعد مكافحة الفساد من أهم مرتكزات رؤية المملكة 2030. ونظرا لاعتبار الفساد افة تمنع التقدم في أي قطاع وتبعاتها الاقتصادية كبيرة فقد جاء اهتمام حكومة المملكة العربية السعودية بموضوع النزاهة وتجنب كل ما من شأنه الاضرار بها من خلال عقد لقاءات وورش عمل في “اتفاقية مكة” لمكافحة الفساد حيث تشمل الاتفاقية 57 دولة بقيادة في المملكة العربية السعودية لمكافحة الفساد على مستوى العالمين العربي والاسلامي. وقد جاء في البيان الختامي للاجتماع الوزاري الأول لأجهزة إنفاذ قوانين مكافحة الفساد في دول منظمة التعاون الإسلامي لإقرار اتفاقية مكة المكرمة عدد من التوصيات. ومن أهم التوصيات التعاون بين الدول الأعضاء “وهو يؤسس لمرحلة جديدة لتعزيز التعاون في مجال مكافحة الفساد بما يخدم مصالحها المشتركة ويحقق لها المزيد من التنمية والازدهار ويجعلها مثالاً يحتذى به في التجمعات الإقليمية والدولية الأخرى، وهي خطوة تنسجم مع مضامين الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد، وتعكس إدراك الدول الأعضاء في المنظمة كثاني أكبر تجمع دولي بعد الأمم المتحدة.” حسب ما جاء في التقرير الإعلامي.
ولأن لكل داء دواء فإن دواء هذا الداء هو تبني سياسة “الإفصاح”؛ فعلى سبيل المثال، لا يصح أن أكون عضوًا في لجنة اختيار موظفين أحدهم من أقاربي، ولا يصح لي التصويت على قرار قد يكون لي فيه مصلحة مباشرة لكوني موظفًا، مثلًا، أو مسؤولًا. وذلك يتطلب جرأة في الحق وقدرة على السيطرة على رغبة النفس الإنسانية ونزوعها لتحقيق مصالحها على حساب المصلحة العامة. وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في مراعاة المبادئ والمصالح العامة عند تعارض المصالح ففي قصة المرأة القرشية المخزومية التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أوضح مثال عملي على تلك المراعاة. فحين عزّ على قومها أن تعاقَب ويُعرَف أمرها، تحدثوا فيما بينهم، ورأوا أن يشفع لها أحدٌ ما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فذهبوا إلى أسامة بن زيد، الحِبّ بن الحِبّ، ليشفع لها. وأقبل على النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثه بذلك، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لأسامة: أتشفع في حد من حدود الله؟! إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
على أن لتعارض المصالح الشخصية والمهنية، إذ لم تغلب المصالح العامة والمهنية، آثارًا سلبية وخطيرة، منها انخفاض معنويات العاملين في القطاع ولا سيما حين يعلمون أن المصلحة لا الكفاءة هي السبيل للتقدم المهني. فعندما يكون الموظفون على دراية بتضارب مصالح معينة في مكان العمل، يمكن أن يؤدي ذلك إلى خفض معنوياتهم الإجمالية وإنتاجيتهم.
ولذلك، وبدلًا من مكافأة الموظفين بناءً على المواقف الشخصية، يحتاج المديرون إلى مكافأة الموظفين على عملهم وقدراتهم المهنية. إن من أخطر نتائج تضارب المصالح الإضرار بالسمعة المهنية، والفشل في التصرف لمصلحة المؤسسة، وذلك يعكس سوء الإدارة ويكشف عن ممارستها لنوع خطير من الفساد. بالإضافة إلى ذلك، فإن عدم معالجة تضارب المصالح يمكن أن يؤدي إلى عدم الانسجام بين الموظفين والإدارة والمديرين.
وبعد، فلتعارض المصالح باب كبير وأوجه كثيرة ومتعددة ولذلك فالنزاهة قيمة أخلاقية يجب على الجميع أن يلتزم بها، وعلينا الاهتمام بها ومناقشتها بلا خجل وعقد ورش عمل لتبني النزاهة والإفصاح عن كل ما من شأنه الإخلال بالمبادئ الأخلاقية العالية لحساب المصالح الشخصية الأنانية.
0