المقالات

اللي اختشوا ماتوا!

لم تكن الحمامات الشعبية في الزمن الماضي مجرد أماكن للاستحمام والنظافة، بل كانت بمثابة أندية اجتماعية وثقافية وصحية يجتمع فيها الأهالي، ويتبادلون الأحاديث والقصص والروايات التاريخية والأشعار، وربما تعقد داخلها الصفقات التجارية، خاصة أنها مزودة بأماكن مريحة للجلوس وشرب الشاي والقهوة والعصائر؛ إضافة إلى دورها الصحي والبيئي في تدوير بعض النفايات والمخلفات التي يتم استخدامها في المواقد لتسخين المياه، للاستحمام والاسترخاء والتدليك.
وكان قد ارتبط بالحمام الشعبي مثل شهير يقول: “اللي اختشوا ماتوا”، ويروى أن قصة هذا المثل تعود إلى أنه بينما كانت مجموعة من النساء ذات مرة في داخل أحد الحمامات؛ إذ نشب حريق بداخل الحمام فبدأت النساء تصرخ ومنهن من خرجت عاريات أمام الملأ لتنقذ نفسها من الهلاك، ومنهن من فضَّلت الموت واختارت البقاء صامدة في مكانها تستحي أن تخرج بهذا المنظر حتى أتت النيران على الحمام بأكمله؛ ففارق الحياة عدد كبير من النسوة. وحينما سألَ الناس مالك الحمام عن الحادث وما إذا كان قد توفيت أحد من النساء، أجابهم: نعم اللي اختشوا ماتوا، ومن هنا اشتهرت القصة وأصبحت بعد ذلك مثلًا شعبيًا يتردد في الكثير من البلاد العربية مع بعض الاختلاف في الألفاظ من بلد لآخر؛ حيث إن هناك من يقول: اللي استحوا ماتوا، والحقيقة أن هذا المثل يتناسب مع كثير من المواقف التي تواجهنا في شتى مجالات الحياة وخاصة المواقف الخادشة للحياء، فعندما يتصرف بعض الأشخاص بطريقة لا تليق بالحياء والخجل، أو يقدم البعض على فعل تصرفات جريئة خاطئة، وعندما يتم انتقادهم أو مساءلتهم يبررون تصرفاتهم بأعذار واهية دون خجل أو ذرة حياء، ومن تلك المواقف:

• تربَّى الكثير من الناس كأفراد في مجتمعهم على ثقافة (لا أحد يشوفك، أهم شيء الناس لا تدري، ما عليك من أحد، مصلحتك هي الأهم وهكذا)، وبكل أسف أن هذا السلوك وضعهم في حالة من التناقض جعلت الفرد يقول مالا يفعل وأصبحت أفعاله تناقض أفكاره؛ والأشد خطورة عندما ينتقل هذا الداء إلى بيئة العمل وتحديدًا إلى إدارة المنظمات التي ربما تجد قراراتها ونشاطاتها تناقض ما تدعو إليه، فربما ادَّعت الشفافية، وهي غارقة في أعماق بحر الضبابية والغموض، وقد تدعي المثالية في بيئة العمل، بينما الواقع يقول: إن من شدة السوء الذي وصلت إليه بيئة عملها؛ فإن قوافل المغادرين للمنظمة وإن شئت فقل: الهاربون من جحيم بيئة عملها؛ أصبحت أكبر من إنجازات تلك المنظمة؛ ولذلك يمكننا في هذه الحالة القول بأن اللي اختشوا ماتوا.

• ومن التناقضات أيضًا أن ينادي مدير مؤسسة معينة بكفاءة الإنفاق ويتغنى بخفض التكاليف، ويحرص على محاسبة الموظفين على كل صغيرة وكبيرة، ويقتر عليهم حتى في تأمين أدنى احتياجات وأدوات ومتطلبات العمل مثل: القلم والمرسم ومشبك الورق وغيرها، ويؤخر بل ويتلاعب في صرف مستحقاتهم المالية. بينما هو يسرح ويمرح في ممتلكات وأموال المؤسسة ويبذر على نفسه وشلته في نهب موازنة المؤسسة من خلال خطط خنفشارية ومشروعات وهمية، والبذخ على المناسبات والاحتفالات والسفريات. هنا لا بد أن نتذكر المثل القائل: اللي اختشوا ماتوا.

• أخبرني أحد الأصدقاء أن موظفًا في إحدى المؤسسات يعمل في وسط بيئة عمل جلها من النساء، ويحاول ذلك الموظف أن يستخف دمه ويتميلح أمام أنظار عدد من الموظفات المحترمات دون ذرة خجل، أو خوف من الله أو حتى رادع من الإدارة، فقلت له مستغربًا؛ ما الذي يجعل هذا المراهق يتمادى في غيه، وما هو سبب سكوت الأخوات المحترمات عن تصرفاته الطائشة، ثم قلت لصديقي: أكيد أن هذا المراهق صديق للمدير؛ فقال صديقي، بل هو أقرب من ذلك، قلت له؛ إذًا هو ابن عم المدير؛ قال لي: بل أقرب من ذلك، قلت له: إذًا أخو المدير، قال لي بل أشد قربًا للمدير، قلت إذًا هو ابن المدير، قال لي يا رجل أقول لك أشدُ قربًا، قلت فمن يكون؟! قال يكفي أن أقول لك: لأجل عين تكرم مدينة!! فقلت حينها صحيح: اللي اختشوا ماتوا.

• تخيلوا لو أن شخصًا أكاديميًا، ويتبوأ منصبًا إداريًا كبيرًا في مؤسسته، وربما يرأس عددًا من اللجان ويشترك في عضوية عدد من فرق العمل كما أن طبيعة المنصب تفرض عليه من المهام والمسؤوليات ما تنوء بالعصبة أولي القوة؛ ومع كل ذلك تخيلوا لو أن هذا الشخص قال: إنه وخلال عام واحد وإضافة إلى مهامه السابقة قد قام بتأليف خمسة كتب، كما انتهى من إجراء خمس دراسات ومثلها من الأبحاث، وحضر عددًا من المؤتمرات والندوات والفعاليات داخل البلاد وخارجها. فمن المؤكد أن تقولوا: إننا أمام ظاهرة فريدة من نوعها وأن ذلك الشخص إما أن يكون رجلًا خارقًا أو امرأة خارقة!! أما أنا فلن أقول غير: اللي اختشوا ماتوا؛ هذا قبل أن أتساءل: أليس لدى هذا الشخص بيت وأولاد ومسؤوليات وارتباطات أسرية واجتماعية!! عندها سوف أضيف للمثل السابق: قال كيف عرفت أنها كذبة؛ قال من كبرها!!

خير الهدي:
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة؛ إذا لم تستحِ فاصنَعْ ما شئتَ.
خير الكلام:
قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُون).

—————————————————-
• عضو هيئة التدريب في معهد الإدارة العامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى