شاع لدى كثير من الناس أن اللغة الأم أو الأولى تؤثر سلبًا على سرعة اكتساب واستخدام اللغة الأجنبية أو الثانية، أو قد تُؤثر اللغة الثانية سلبًا على اللغة الأم وخاصة إذا كان اكتسابها أو تعلمها في سن مبكرة، وهناك بعض الكتابات والرؤى التي تُؤيد مثل هذا التوجه، ولكن لم تظهر دراسات تؤيد التأثير الإيجابي لتعلم أو اكتساب اللغة الثانية على اللغة الأم ناهيك عن رفع مستوى استخدامها، والتوسع في مدارك الفهم والاستيعاب لدى الدارسين إلَّا مؤخرًا وتحديدًا مع بداية الألفية الثالثة.
فالدراسات والأبحاث عن التأثير الإيجابي للغة الثانية على قوة ومرونة وسلامة استخدام اللغة الأم، وخاصة في الأنماط والجمل المركبة أو المعقدة وكذلك في المدلولات والمعاني اللغوية العميقة، بدأ ظهورها في بداية عام 2000م. وقد أجمعت هذه الدراسات والبحوث على النقطتين التاليتين لكي يظهر هذا التأثير الإيجابي:
1. يجب أن يكون المستوى اللغوي في اللغة الثانية مرتفعًا؛ ليظهر أثر ذلك إيجابًا على استخدام وسرعة البديهة لدى الدارس في لغته الأولى.
2. طبيعة هذا التأثير ليس أُحاديًا، أي من اللغة الثانية إلى الأولى، بل ثنائيًا ينتقل من اللغة الأولى إلى الثانية والعكس.
وقد يقول قائل، ما هي بالضبط أوجه هذا التأثير الإيجابي وكيف يظهر وكيف يمكن قياسه. أو دعوني أُصيغ هذا القول في مجموعة من الأسئلة البحثية وألخصها بالتالي:
1. هل هناك تأثير على سرعة الإدراك أو الفهم في اللغة الأم أو الأولى مع تعلم أو قوة اكتساب اللغة الثانية؟
2. لو ظهر التأثير الإيجابي، كيف يمكن قياسه أو إيضاحه أثناء استخدام اللغة الأم؟
3. ما هي العناصر اللغوية المستخدمة في اللغة الأم التي تُظهر هذا التأثير؟
في عام 2008، أجريت دراسة على طلبة جامعة طيبة بالمدينة المنورة (مجموعتان)، مجموعة من طلبة قسم اللغات والترجمة (تخصص لغة إنجليزية) والأخرى من تخصصات مختلفة و(المجموعتان) من طلبة الآداب والعلوم الإنسانية في السنتين الأخيرتين في الجامعة. ووضعت معيارين لقياس الأثر (إيجابي أم سلبي):
1. سلامة وقوة التراكيب اللغوية المستخدمة في اللغة الأم (مثل طول الجملة واحتوائها على مفردات عديدة ومدلولات أو معانٍ غزيرة).
2. نوعية الدلالات اللغوية في قوة المفردات اللغوية وتنوعها وغزارتها.
هذه الدراسة، وسبقتها بعض الدراسات المتتالية في أعوام 2005، و2006، و2007 أظهرت الأثر الإيجابي لتعلم اللغة الثانية على استخدام اللغة الأم، وخاصة إذا كان هذا التعلم أو الاكتساب للغة الثانية وصل إلى مستوى عالٍ من التمكن والإتقان في الاستخدام والتحدث والكتابة. ظهر هذا الأثر الإيجابي في عدة نواحي منها:
1. سرعة الفهم والإدراك للأنماط اللغوية العديدة في لغة الأم.
2. تنوع في استخدام الروابط اللغوية بين الجمل مثل: (بينما، حسبما، على كل حال، حالما،.. إلخ) مما يُبدي إلى وجود حمل أطول وأكثر تعقيدًا في الاستخدام وفي الدلالة.
3. ثراء لغوي أكبر وخاصة في المفردات اللغوية ذات دلالات عميقة انعكست في مستوى الكتابة لدى عينة الدراسة.
هذه الدراسة والدراسات الأخرى العالمية على اللغات المختلفة، أظهرت هذا التأثير الإيجابي في تعلم اللغة الثانية على اللغة الأم، وخاصة إذا وصل هذا التعلم إلى درجة عالية أو متقدمة من المقدرة اللغوية في اللغة الثانية، وهذا التأثير ليس فقط في ترسيخ المهارات اللغوية للغة الأم بل ويتجاوز ذلك إلى تطوير الشخصية المعرفية عند المتعلم، وأيضًا يُلاحظ زيادة قوة الإدراك وسرعة الفهم لدى مجيدي التحدث بلغتين أو أكثر.
إذا استطعنا برهنة أو إثبات هذا التأثير الإيجابي من اكتساب أو تعلم اللغة الثانية على قوة ومتانة وطلاقة استخدام اللغة الأم، قد يقودنا إلى ما ذكره علماء اكتساب اللغات فيما يخص اشتراك لغات العالم في القوالب اللغوية التي يستوعبها دماغ الإنسان، مثل: تشومسكي ونظريته التحويلية والتطويرية إلى النظريات اللغوية النفسية والاجتماعية التي تقول بأن لغات العالم لها قوالب ومضامين مشتركة وإن اختلفت في الأصوات أو القواعد النحوية، وبالتالي تعلم لغة أخرى أو ثانية سيساعد على سرعة واكتساب لغة ثالثة أو رابعة وهكذا، أي أن التأثير إيجابي ومفيد أكثر من كونه سلبيًا ومعطلًا.
كما تدعو النظريات والدراسات اللغوية الحديثة إلى مزيد من البحوث لاكتشاف لهذا التأثير، هل هو أُحادي الاتجاه (من الأولى إلى الثانية أو من الثانية إلى الأولى) فقط، أم أن التأثير متبادل بين اللغتين (الأم والثانية)، أي أن كل لغة تُؤثر على الثانية وكيف نستطيع أن يكون هذا التأثير إيجابيًا أكثر.
وتزيد بعض الدراسات الحديثة أيضًا، أن التأثير الإيجابي الأكبر من اللغة الثانية على اللغة الأم يتجاوز المفردات والتراكيب النحوية والدلالية إلى كبر سعة الإدراك والفهم والاستيعاب لدى متعلم اللغة الثانية نتيجة اطلاعه أو اطلاعها على أفق حضارية وثقافية للغة الثانية مما يزيد من التحصيل الثقافي والمعرفي والحضاري لدى المتعلم، وينعكس ذلك على نظرته للأمور ويُعمّق التفكير التحليلي لديه.
حقيقة، هناك العديد من الدراسات والبحوث اللغوية التي لا يتسع المجال اليوم لذكرها أو مناقشتها، وكلها تُوضح أن العقل البشري منفتح لاكتساب مزيد من العلوم والثقافات بانفتاح صاحبه على الاطلاع عليها سواء بالترجمة أو باللغة الأصلية لهذه الثقافة أو الحضارة.
والسؤال المهم والمهم جدًا الذي أرغب في طرحه أمام أسماعكم الكريمة اليوم، هو:
لماذا لا يظهر هذا الأثر الإيجابي على طلبتنا في المدارس أو المعاهد أو الجامعات؟
قد تكون الإجابة على هذا السؤال معقّدة أو متشعبة، ولكن من خلال الأبحاث والدراسات وأيضًا من الخبرة العملية في تدريس مختلف المقررات وتحديدًا “اكتساب اللغة الثانية” في الجامعة وألخصها بالتالي:
1. إذا رغبنا في ظهور هذا التأثير الإيجابي، يجب أن نصنع البيئة (التعليمية) المناسبة لنمو هذا التأثير. فاللغة كائن حي، ولكي ينمو هذا الكائن الحي بشكل سليم نحتاج لبيئة مناسبة لنمو اللغة سليمة قوية ومعافاة. أي، يجب أن تُقدم اللغة الثانية سليمة غير مشوهة، كما نادى بذلك ابن خلدون في مقدمته من مئات السنين عندما تحدث عن التشوه اللغوي في نمو اللغات، وهذا يتطلب مِن مَن يقوم بالتعليم أو التدريب أن تكون لغته سليمة (إلى حد ما)، وكذلك يجب أن تُقدّم في بيئة تفاعلية وليس بشكل معرفي فقط. فاللغة وسيلة تواصل، فيجب أن يتم استخدامها وليس حفظ قواعدها أو حفظ مفرداتها منفصلة عن بيئة استخدامها بشكل فعّال.
2. اللغة مهارة، وهذه المهارة لها أصول وثوابت لتُكتسب هذه المهارة وتنمو بالشكل الصحيح. مثل: نمو العضلات في الجسم، التدريب ثم التدريب، وبالشكل الصحيح وبالقدر المناسب مع الغذاء المناسب والراحة الجسدية والذهنية سيظهر نمو العضلات في الجسم، وكذلك اللغة. فلكل مهارة في اللغة لها تدريبها الخاص. فهناك مهارات الاستماع والتحدث والقراءة والكتابة، وهناك مهارة حديثة وحديثة جدًا لم تؤكدها أو تُظهرها النظريات بعد وهي مهارة الإحساس أو الوجدان، وهي الإحساس باللغة وربطها بالمواقف الاجتماعية والنفسية المختلفة التي يمر بها المتعلم ليتم تذكرها ومعرفتها.
3. التدريب السليم ثم التدريب المقنن على اكتساب وتعلم اللغة بشكل صحيح ومناسب للمستوى اللغوي يساعد على سرعة إدراك واستيعاب للغة، ووضع اللغة الثانية في قوالب أو مواقف تستخدم فيها اللغة في الحياة اليومية هو ما يُساعد ليس على سرعة اكتسابها فقط، بل على قوة اكتسابها، وبالتالي قوة تأثيرها إيجابًا على استخدام اللغة الأولى أو اللغة الأم.
إذًا تعاملنا مع اللغة الثانية هو الذي سيُظهر هذا الأثر الإيجابي أو الفرق كما يقال. فكلما كانت عملية الاكتساب أو التعلم علمية وسليمة وقوية ومن خلال مواقف تفاعلية يتم استخدام اللغة فيها بحرية واستمتاع، وأيضًا من قبل معلمين جيدين مدربين على وسائل حديثة في التعليم كلما كان النمو اللغوي للغة الثانية سليمًا في عقل المتعلم، وبالتالي ينعكس إيجابًا على اللغة الأم وسرعة الإدراك والفهم.
والعكس صحيح، فعندما لا تُقدّم اللغة الثانية بالشكل الصحيح للمتعلمين، سواء كان من يقدمها لا يتقنها، وبالتالي تكون اللغة الثانية مشوهة أو يقدمها على أنها معلومة تحفظ فقط، فالنتيجة تنعكس سلبًا حتى على مستوى استخدام اللغة الأم، وكذلك على البطء في الفهم والإدراك والاستيعاب.
هذه قاعدة علمية مهمة جدًا يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار في تدريس اللغة الثانية؛ ليظهر الأثر الإيجابي على استخدام اللغة الأم، وكذلك على مستوى التفكير والإدراك والتحليل لدى المتعلمين.
الخاتمة والتوصيات:
1. يجب أن نتعامل مع اللغة الثانية ككائن حي، نصادقه ونعيش معه، ونألفه حتى يألفنا.
2. اكتسابنا أو تعلمنا للغة الثانية يجب أن يمرَّ عبر قنوات صحيحة وسليمة وبعيدة عن التشوه اللغوي حتى تصل اللغة سليمة وتنمو بالتالي في بيئة صحيّة في عقولنا؛ لتكتسبها عقولنا بشكل صحيح لتعمل بعد ذلك بشكل صحيح.
3. قوة اكتساب أو تعلم اللغة الثانية ووصولها إلى مستوى متقدم في عقولنا سيُظهر الأثر الإيجابي ليس فقط على قوة استخدامنا للغتنا الأم، بل حتى على مستوى إدراكنا واستيعابنا للعلوم المختلفة حولنا