يُقال ” من يبحث عن الحب ربما يجده في صوت المطر”
هناك عداء تاريخي بين المطر وبين المادة التي ترهق الروح وتستنزف طاقتها، وربما تشلّها في أحايين كثر، ولن تكون مبالغاً حين تشير إلى قطرات المطر لسائل التشافي وطالب الترياق بأنها السبيل الأول لذلك الطريق.
المطر أشبه ما يكون طبيب يجهد نفسه في علاج مرضاه، ولكنه يزيد على الطبيب بإعطاء النتائج قبل الوصفة، فالشفاء نتيجة حتمية وغاية مؤكدة لذلك الجهد، كما أنه يملك موضوعية أكبر في العطاء، فلا يتعامل على أي أساس يدرجه المستشفي، بل وفق ما يملك بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى، ولذلك يهب الجميع ويمنح الكل، وأجمل من هذا أنه لا ينتظر.
الكثير من تدفقات الفكر ومنسوجات الشعراء شكّلها الشتاء، وربما الشتاء لإنه إيذان بالمطر، وحتى ما خرج عن الشتاء فقد استشهد به الأخرون بخلفية تلك القطرات الذهبية، والتي تصنع معانٍ إضافية لكل ما توازى معها، فأكمل الصورة حسناً وجمّلها روعة بمعيته وتحت رايته.
هل ما نعيشه تجاه ذلك الغيث مبالغة!؟ إذ أنه صرف من الصروف، وحالة من حالات متعددة في نهاية المطاف، فلماذا هذه السمعة الجيدة التي يفتقدها غيره؟ ولماذا تُقام الصورة ناقصة دونه؟ ولماذا هو تلك اللقطة التي يكتمل بها المشهد؟
لا نحتاج إلى إجابة، بل نحتاج إلى انحياز أكبر لتلك القطرات، وفتح المجال أمامها بشكل أكبر لتستبيح ما يمكن استباحته فتعمل فيه كما تشاء لا كما يُملى عليها.
للفقر غِنى يفنيه، وللجفاف غيث يرويه، وللميْت روح تحييه، ولمن يتأمل قد يخرج بالكثير حول تلك المزية وذلك القدر، وكأنه بطريق أو بآخر يشرح ذلك التقارب بين هذا الكون وتلك القطرات، وحتى في مسمياته دليل على بعض قيمته ففي الغيث كل ما تنتظره النفس وترتاح له، وبه، بل وأبعد من هذا حين تتبّع المألات من ازدهار وزهو ونمو …. والقائمة تطول.
فلسفة الحياة تقوم على المطر كنتيجة أولية لذلك المسار، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذلك كان سبباً في حياة كل شيء، ويكفيه أن يكون مصدر النور ومعدن الخروج من الجور والذي مارسه الظلام كثيراً على تلك البذرة الحبيسة.
رائحة المطر وما أدراك ما رائحة المطر؟، هي جزء من تلك المعادلة حين تأخذنا بعيداً لتصبح معياراً لما تهواه النفس وتترقّبه الروح، ولن تشطّ في أن تقارن كل زكيّ برائحته، وأراها مستحقةً لتشكل ذلك المعيار، إذ لا نعرف حتى الساعة أجمل من رائحة المطر، كما أنها مدفوعة الثمن سلفاً فليس لأحد أن يقاضيك بها أو أن يحسبها عليك.
المطر يعلمنا الاكتفاء كذلك، وربما تستغني به عن كل أحد، وتستطيع أن تحظى بأجمل اللحظات معه فقط دون الاحتياج لأطراف أخرى تجلب السعادة وتنشر البشر.
رواية المطر طويلة جداً، وأطول منها ذلك الأثر الذي صنعته، ولكن علمتنا الحياة أن المعاني الكبيرة تضعف بالشرح لطبيعة البشر التي يكتنفها النقص ويتخللها العجز ويجتاحها التقصير.
ختاما.. أرواحنا حصيلة أرضنا فإذا أُنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت ونحن بقية القصة وسلسلة أجمل لذلك التفاعل.