قال ابن خُرمان:
قلما يجد الإنسان صديقًا دون عيوب أو أخطاء بل نستطيع القول إنه لا وجود لهذا الصديق فكلنا خطاءون، وتمر الظروف على الإنسان يفقد معها التعقل وتتغيَّر نفسيته ربما دون قصد سرعان ما يعود بعدها إلى الاعتذار عن سوء تصرفه خاصة مع أصدقائه، وقد تطرق الشعراء قديمًا وحديثًا لهذا الأمر؛ فمنهم من تشدد في ذلك ونصح بمقاطعة القريب ناهيك عن البعيد كقول الأضبط بن قريع السعدي:
وصل حبال البعيد إن وصل الــــــحبل واقص القريب إن قطعه
إلا أن أغلب الشعراء كانوا يدعون إلى التسامح والتغاضي عن زلة الصديق فمما يروى للإمام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قوله:
ألبس أخاك على عيوبه * واستر وغط على ذنوبه
كما يروى للأصمعي قوله:
ولا تقطع أخا لك عند ذنب * فإن الذنب يغفره الكريم
ومما ينسب لكثير عزة:
ومن لا يغمض عينه عن صديقه * وعن بعض ما فيه يمت وهو عـــــاتب
ومن يتتبع جاهدًا كل عثــــــــرة * يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
وللشعر الشعبي دوره في النصح للتعامل مع الصديق؛ حيث إن هناك عددًا من القصائد قيلت حول هذا الموضوع منها قول الشاعر هلال الديحاني:
لا جاتك الزله من اللي توده * فكّر بحفظ الود واعرض عن الرد
وإذا اعتذر عن زلته لا ترده * بحر العلاقة دايم الجزر والمد
حبل المواصل بين الأقراب مده * ارخه لیا شدوه والیا ارتخی شد
وانس الخطا حتى تدوم الموده * من يذكر الهفوات ما يحفظ الود
ولم يكن شعراء الشقر أقل حظًا من الآخرين؛ فقصائدهم خاصة الزمل الطويل تمتلئ بالحكم والنصائح حول تعامل الناس مع بعضهم فمنها ما تطرق لحقوق الجار وحقوق الأبناء وحقوق الوالدين والأقارب وغيرها، وكان للتعامل مع الأصدقاء وحسن اختيارهم والتغاضي عن زلاتهم نصيب الأسد من قصائد كبار الشعراء؛ فهذا الشاعر الكبير أحمد بن علي الدرمحي الزهراني يقول في إحدى قصائده:
قال أبو خالد الدنيا سعة والقصافة في القلوب
إن غدينا ندور صاحب لا يزل ولا يعاتب
مثل من في ظلام الليل يبحث على ريشة غراب
سود الله وجوه اللي جفاهم على دنيا دنية
ما درى أن المقابر واحدة للغني وللفقير
لا تعاتب صديقك لجل زلة لسان وما يشابه
كل أبونا بشر نخطي ونقدي ولله الكمال
والصديق الذي تطلع معاريفه أكثر من عيوبه
توجه بالرضا لا تلحقه لا عتاب ولا حقوق
واعلم أن الجروح أنواع ما كل جرح له دوايا
جرح الأبدان ما هو مثل نزف القلوب الداخلي
قال ابن خُرمان:
بدأ الشاعر قصيدته بأمر نعرفه جميعنا إلا أننا ننساه في كثير من الأحيان، وهو أن الدنيا بأرضها وسمائها فسيحة تتحمل كل ما يجري فوقها أما الضيق والكدر ففي قلوب البشر، وشاعرنا هنا يذكرنا بقصيدة بشار بن برد التي ورد فيها:
إذا كنت في كل الأمور معاتبًا * صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه
فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه * مقارف ذنب مرةً ومجانبه
وأستطيع القول أن شاعرنا الدرمحي قد أجاد الوصف والإيضاح عمن يبحث عن هذا الصديق الذي لا يخطئ كمن يبحث عن ريشة غراب واحدة في ليل حالك الظلم، وعلينا أن نتخيل هذه الصورة:
إن غدينا ندور صاحب لا يزل ولا يعاتب
مثل من في ظلام الليل يبحث على ريشة غراب
ثم ينتقل الشاعر الدرمحي إلى تشديد الملام على من كانت مقاطعته لصديقه بسبب أطماع الدنيا، والتي نهايتها الموت والانتقال لقبور متشابهة لا تفرقة فيها بين غني وفقير:
سود الله وجوه اللي جفاهم على دنيا دنية
ما درى أن المقابر واحدة للغني وللفقير
وينصح الشاعر بعدم معاتبة الصديق بسبب زلة لسان قد يكون سببها ظرفيًا، وربما لم يكن يقصد الإساءة ويؤكد الشاعر أننا جميعًا معرضون للخطأ ولا كامل إلا الله سبحانه وحقًا ما قاله الشاعر:
لا تعاتب صديقك لجل زلة لسان وما يشابه
كل أبونا بشر نخطي ونقدي ولله الكمال
والصديق الذي تطلع معاريفه أكثر من عيوبه
توجه بالرضا لا تلحقه لا عتاب ولا حقوق
وهنا يعيدنا الدرمحي لتذكر بعض أبيات بشار بن برد في القصيدة المشهورة:
إذا أنت لم تشربْ مرارًا على القذى * ظمئْتَ وأيُّ الناس تصفو مشاربه
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلُّها * كفى المرء نبلا أن تُعدَّ معائبه
ويختم الشاعر قصيدته بأبيات غاية في الجمال تنبه المستمع إلى أن الألم النفسي وجرح الخواطر أكبر بكثير من جرح الأبدان؛ حيث إن جرح البدن يمكن معالجته أما جرح النفوس؛ فليس من السهولة علاجه فهو النزيف الداخلي المستمر، وقد قال الشاعر فاضل أصفر:
وأصعبُ الجرحِ جرحُ الروحِ أحسَبُهُ * وأهونُ الجرحِ سَيَّالٌ ببعضِ دمِ
أما الدرمحي فختم قصيدته بقوله:
واعلم أن الجروح أنواع ما كل جرح له دوايا
جرح الأبدان ما هو مثل نزف القلوب الداخلي
قال ابن خُرمان:
حقًا قول الشاعر فجرح القلوب هو الأشد ألمًا، وعلينا الصبر والتغاضي عن زلات الصديق.
والله ولي التوفيق.
– الدمام
الإثنين 23-1-2023 الموافق: 1-7-1444هـ