يحكى أن
لا أذكر عندما كنت أعمل مع والدي الذي بدأت فيه عام 1952 وأنا إبن العاشرة أن يكون هناك سندات استلام، أو طلبات شراء، أو تواقيع .. كانت الثقة هي التي تحكم المتعاملين..
وبالرغم بأني في هذه المرحلة إلا أن الكل المتعامل معنا لم يجد غضاضة وحرجاً في أن يعطيني ما أطلبه بناءاً على توجيهات والدي ولم يقتصر ذلك على أحدهم وإنما الكل يسير على هذا المنوال..
وأذكر بعدها عندما أرسل والدي (يرحمه الله) إلى أحدهم يطلب سبيكة ذهبية، أن أحضرتها ومعي سند إستلام ليوقعه فردني إليه بها وقال له: شكراً.
ثم أتى صاحبنا إلى والدي معتذراً بأنه لم يقصده وأن ذلك إجراء طبيعي لحفظ الحقوق لنا وعلينا..
هذا الإجراء انتقل من الآخرين تدريجياً فصرنا ندفع ونأخذ إيصال استلام، ونطلب فيؤخذ منا سند إستلام، وعند الدفع النقدي ليس هناك إجراء من هذا القبيل.
بعدها تطور الموضوع حتى النقدي نأخذ ونعطي سندات القبض.. وتدرجت الإجراءات وتطورت المعلومات وأصبح كل شيء لا بد أن يدون.. ومع هذا التطور أصبح هناك ديون مشكوك فيها.. وأناس لا يحبّذ التعامل معهم ويكونوا معروفين عند الجميع ,,وسمعتهم واسمهم ينفي عنهم الثقة فيهم..
كبرت المجتمعات وتطورت العلاقات بين المدن والخارج وتدخلت البنوك بخطابات الإعتماد والدفع مقابل الأوراق وصيغ يتفق عليها مع الطرفين..
تعاملنا مع شركات خارجية لمدد طويلة قد تصل إلى أكثر من خمسة عقود بكميات صغيرة ثم كبرت.. وكبرت وتواجدت الثقة.. فعدت مرة أخرى لا أكتب ورقة ولا تعهداً .. وتأصلت الثقة بيننا إلى تبادل تجاري، حتى أني أذكر أن أحد هذه المؤسسات اتصل بي لحاجة ملحة عنده .. فأرسلت ما طلبه وبعدها باسبوع أعاد المبلغ مرّة أخرى لحسابي.. وقال في مكالمة هاتفية: ماذا تريد فهذه شركتك؟ وقد اتضح أنه كان يريد أن يجرب هذه العلاقة التي وفقني الله لنجاحها..
وفوجئت بسفير دولة أوروبية يحضر إلى مكتبي ومعه وسام من رئيس الجمهورية وقد عبّر لي أن العلاقات المتميزة التي جرت معي خلال أربعة عقود مع الشركات الإيطالية.. ولم يكن هناك فيها شوائب أو مشاكل أو دعاوي وبعد الفحص عني مُنحت هذا الوسام إسمه ( الفارس) وذلك في عام 1999م.
ولا زلت أتعامل مع الشرق والغرب بدون أن أوقع مستنداً واحداً.. وربما يُكتفى بالتعاملات الالكترونية أو أن الثقة لا تزال موجودة في هذه المهنة التي أهم ما فيها الأمانة والصدق والوفاء.
الآن ماذا حصل عندنا؟ لماذا الثقة تضاءلت حتى أن التعامل أصبح نقداً؟ والشيك غير مقبول إن لم يكن مصدقاً.. والعميل الذي يوثق فيه أصبح نادراً ..(وموجود) .. ولعلّ ندرته لم تشفع للثقة أن تأخذ مكانها.
عُدت بذاكرتي للوراء.. ما هو دور الإعلام في المجتمعات؟ وباعتبار أن الإعلام المصري كان يستحوذ على عقولنا.. في الحقبة التي عشناها فإن التغيير في فلاسفته ومثقفيه وتحولهم إلى منطق سياسي مختلف عما تعودناه ونهجهم مع التواكب المستورد من الشرق.. أوجد لنا تخبّط في معرفة حقيقة اكتسبناها في شبابنا وترسخت عندنا.. وقد تغير هذا النهج وأصبح هناك مقاومات. من جهة أخرى مضادة لهذه الأفكار في مثقفين آخرين من دول شتى وتفرق الجميع وتفرق الفكر.. وأصبح لكل منا توجهه وكل منا يرى النظريات التي كُتبت هي الحقيقة التي كانت ضائعة عنا..
واحتدم الصراع بالغزو الفكري المتصادم حتى انتهى إلى زعزعة الثقة التي كانت فينا وعشنا بها وتربينا عليها..
ولعلّي لا أبالغ بأن ذلك قد امتد من الدول إلى المجتمعات، إلى العائلات، إلى الأفراد .. ووصل التساؤل ماذا يعني هذا؟ وماذا يقصد من هذا؟ ولماذا فعلها؟ ولماذا امتنع عن فعلها؟ .. ولماذا؟ .. ولماذا؟
شك وشك بعلم وبغير علم..
آخر الكلاك ..
كيف يمكن أن تنتهي هذه العقده ..
لا أعتقد فقد امتدت إلى دول وإلى شركات كبيرة والى شهادات لا تعرف من أين أتت إلى أبحاث أثبتت فشلها بعد إقرارها
وتبقى فقط الحقيقة التي لا تقبل الشك..
” أفي الله شك فاطر السموات والأرض”
” آمنا بالله وبرسوله وملائكته وكتبه ورسله ”
اللهم ارزقنا الثبات