قبل العاصفة! تتلبد السماء بالغيوم، وتتزاحم السحب متسارعةً، لتحجب الشمس في مشهد السماء، ويحل الظلام، ويتردد صوت الرعد متلاحقًا، مخيفًا، يتبعه وميض البرق لامعًا مشعًا، ثم تنهمر الأمطار بغزارة، فلا تلبث تلك العاصفة الماطرة أن تهدأ بالتدريج، وينقشع ذلك الظلام، وترحل السحب والغيوم لتظهر الشمس من جديد تنير الأرض، وتنشر الدفء والجمال، والسلام ! وهذا حال البشر، تمرّ عليهم مواقف أشبه ما تكون بالعاصفة، ثم لا تلبث أن تزول وتنقشع غيوم الصعوبات، وتدور عجلة الحياة، وتتوالى أزمانها!
دُعيت منذ فترة طويلة، إلى حفل زواج ابنة أحد أصدقائي القدامى! ودخلت قاعة الفرح وسط ضجيج المدعوين، وصخب فرقة الألعاب، والعريس كان محاطًا بأصدقائه، يرقّصونه رقصًا بريئًا في دائرة منتظمة، ويحيطونه رافعين العصي والسيوف فيما يشبه الخيمة المظللة، ومظاهر الفرحة والسرور تغمر الجميع.
وبما أنني لم أجد أحدًا أعرفه في ذلك الحفل – سوى صاحب الدعوة – فقد رأيت أن أجلس بجوار ذلك الرجل الكبير ذي الملابس التقليدية الجميلة، لعلي أجد فرصة لتجاذب الأحاديث معه، فأنا أحب أن أجالس كبار السن والاستماع إلى (قصصهم وحكاويهم) التي عادة ما تكون مليئة بالحكم، والمواقف ذات العبر والفائدة! وبالفعل كان الحديث، مع ذلك الشيخ – كما توقعت – شيّقًا وعذبًا وممتعًا، حين تجاذبنا أطرافه!
وقادنا الحديث من موضوع إلى آخر، حتى وصل بنا إلى ما آل إليه حالنا من تبدّل القيم والمفاهيم، والتي أفرزت عدة سلبيات، فلم تعد التربية كما كانت، وفقد المجتمع الكثير من قيمه، التي كانت سببًا في تماسكه، وتبعًا لذلك اختلّ توازن الأسر، وتخلخلت الحياة الزوجية، وكثرت حالات الطلاق، في ظاهرة اجتماعية مخيفة، ولكي يؤصل تلك القيم الاجتماعية؛ وخاصة على مستوى الحياة الزوجية، قال لي ذلك الشيخ :
دعني أحكي لك قصة! هل ترى هذا العريس المحاط بأصدقائه ومحبيه، يرقّصونه فرحين به ! إنه أصغر أحفادي! وأذكر أن والده لما صار في سن الزواج، أردنا أن نخطب له (بنت الحلال)، ولم أجد أفضل من صديقي (عمر) رفيق طفولتي وابن حارتي – سوق الليل- لأخطب ابنته (نادية)، وأتذكر أنه لما خطبتها لابني قال لى (عمر) :
– والله إني أتشرف بمصاهرتك (يَا أبو حسين)، وأنت أخ لي لم تلده أمي، وهذا ابنك، وهذه ابنتك، فزوّجهما على بركة الله!
وبالفعل تم الزواج سريعًا، وسكن العروسان مدينة جدة بشارع المينا؛ حيث كان عمله، ومضت بضع شهور على زواجهما! وفي ليلة عاصفة ماطرة، أوشكنا على الخلود إلى النوم وكانت الساعة (الخامسة) بالتوقيت الغروبي أي ما يوافق الساعة العاشرة بالتوقيت الحالي (الزوالي)، وإذا الباب يُطرق، وانزعجنا من ذلك، فلم نعتد أن يزورنا أحد في ذلك الوقت، فضلًا على أن الجو ماطرٌ، لا يناسب الزيارة أبدًا، (خيرًا اللهم اجعله خيرًا)
ونزلت وفتحت الباب وإذا بالطارق ابني (حسين) وزوجته، ودخلا إلى دهليز البيت وهما مبتلان من المطر وسألته مستغربًا:
– خير يا حسين ! ما سبب هذه الزيارة المفاجئة؟ في هذا الوقت وفي هذا الجو ! قال لي:
– يا أبي أنا لا أريدها، وهي لا تصلح لي وأنا لا أصلح لها، وبيننا خلافات كثيرة، لذا قررنا الانفصال، فأجبته بحدة وغضب:
– (وليش جايبها عندي، ودّيها بيت أبوها)
وأقفلت الباب وراءهما، وصعدت إلى الأعلى وأنا أستشيط غضبًا، مرددًا: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، ونمت ليلتي تلك بمشاعر مختلطة من الأسى والحزن والغضب، واستيقظت صباحًا بنفس تلك المشاعر، متعجبًا من تصرفي القاسي تجاههما، وعلى الضحى جاءني صديقي (عمر)، وفتحت له الباب، وسألني:
– ألم يأتِ إليك (حسين ونادية) البارحة؟ قلت له:
– بلى، وقصصت عليه ما كان مني تجاههما، وأخبرته بأني قلت له اذهب بها إلى بيت أبيها. فقال لي:
– وقد جاءا إليّ قبل أن يأتيانك أو بعده (الله أعلم)، وفتحت لهما الباب في ذلك الجو الماطر، وبادرت هي بالكلام، وأنها لا تريده لاستحالة الحياة معه (على حد قولها)، وأنهما قررا الطلاق، فقلت له:
– يا ولدي أنا لا أعرفك، وإنما الذي خطبها مني وزوجك إياها هو أبوك، فاذهب بها إليه، والرأي له، وخرجا من عندي!
وتعجّب كل منا من تصرف الآخر تجاههما، وكأننا متفقان على ذلك، فجاء تصرفنا معهما – بتلك الطريقة- واحدا!
– المهم أين ذهبا (يا أبو حسين)؟
قررنا الذهاب إلى منزلهما بجدة، وبالفعل ركبنا سيارته (البيجو) وذهبنا، وكانت الأمطار قد توقفت بالليل وانقشعت الغيوم وظهرت الشمس، بضيائها وأشعتها الدافئة، لتعلن عن يوم جديد مليئًا بالأمل والتفاؤل!
ووصلنا إلى شقتهما ودققنا الباب، ولما دخلنا وجدنا الحال غير الذي كنا نتوقعه! فقد كانا يلعبان (الكيرم) وبجانبهما إبريق الشاهي والفشار، والفصفص، وهما في غاية السعادة والوفاق، وشربنا الشاهي وغادرنا إلى مكة المكرمة، دون أن نفتح الموضوع أو نناقش ما كان من ليلة البارحة! واختتم أبو حسين قصته :
– وهكذا أثمر (يا دكتور) ذلك الزواج عن تسعة أولاد، بنين وبنات، أصغرهم هو عريس الليلة !
وبسبب ذلك التصرف القاسي في ظاهره مني ومن صديقي (عمر) الحكيم في جوهره، تمّ حفظ تلك الأسرة من التفكك والانفصال، واحتفظنا أنا وصديقي عمر بصداقتنا، بل إننا لم نسمع أبدًا أنهما اختلفا خلال تلك المدة الطويلة من العشرة الزوجية!
ومقارنة بالحال في أيامنا هذه نتوقع أن ينتهي ذلك الخلاف إلى:
– سيبها واحنا نزوجك (ست ستّها) أو
– اتركيه وتعالي! بيت أبوكِ مفتوح، معززة مكرمة، وألف من يتمناكِ.
وبين هذا المفهوم وذاك، ضاع أولاد، وانهدمت بيوت، وتشتّت أسر، وتحوّل الأصدقاء أو الأهل أعداءً، وامتلأت المحاكم بحالات الطلاق! لأننا لم نفقه أن بعد العاصفة سكونًا، وبعد هزيم الرعد وقصف البرق، وسيول المطر، حتمًا ستصفو السماء، وستشرق الشمس لتبدّد الظلمة، وتنشر النور، وستزهر الأرض لتعود للحياة بهجتها واستمراريتها .
أ.د. عبدالله بن عبده فتيني.
مقال جميل من شخص اجمل وقصة هادفه ورائعة اباغازي
بالتوفيق والسداد