نتردد كثيراً في تسمية الوهم، وربما نجاهد أنفسنا ونجاهد غيرنا دون أن نعترف، وعليه فإننا نعلن العداء على كل من يُسمي وهمنا وهما.
الوهم قراءة خاطئة لذلك المدلول، وليست هي المشكل، فالحياة مكتنزة بالقراءات الخاطئة، ولكن الأزمة التي شكلت شؤم المصطلح هو السعي في عدم التصحيح، وبذل ما يبذل في فرضه واقعاً، واستجلاب الوقائع والأحداث، وسرد الماضي وتحقيقات الحاضر لتوطين تلك الأوهام حقائق لا تقبل التعليل.
تقوم الفلسفة على نبذ القراءات الخاطئة، ومنها الوهم، فالذي يدخل ولو ببعضه في تلك الحكمة يتجلى له حرب الفلاسفة لها، ومحاولته تقعيد أركانه أكثر من خلال رفض ما يقوضه على الجملة، ولو عدت بالزمن إلى الوراء لأدركت سبب شنق هذا وقتل ذاك وشيطنة ثالثهم، فالذي حكم على سقراط مثلاً ربما يكون أحد تجار الوهم وأعداء الحقيقة، ووجود سقراط يعني تهديد لذلك الشعار وتقليل من مساحته على المدى البعيد وربما انعدامه كذلك.
تُعاب الحقيقة أنها تأخذ زمناً للخروج أكثر من ضدها، ولكي يثبت سقراط صحة بعض ما يقول قد احتاج ذلك العالم إلى أزمنة مديدة تتعدى جيل سقراط ذاته، بل وجيل تلامذته وتلامذتهم كذلك، وباتت متلازمة الوهم نبذ الفلسفة وتقنين العقل.
الفلسفة ترتب العقل، وترتب عمله، وتصنع محيطاً يحقق فعالية تلك الجمجمة بشكل أكبر، وتعمل بجدٍ على توسيع دائرة نشاطه، وتصرف جهداً كبيراً في تقتيت الخطوط الحمراء التي ينسجها من يتنفّع بها ويستطيل بها عمره.
لا تختط الفلسفة أبداً صناعة القيود لذلك العقل، وهذا ما يتعارض مع ما يطالب به الشيخ الأكبر ابن عربي في ضرورة التأطير مع أننا نتفق معه في أغلب ما يقول إلا أن التأطير وخلق الحاجز قد يحد من وظيفته ويقلل من عمله.
كل ذلك الفضاء الرحب مع أداة جيدة من العلم والمعرفة والوعي سيسهم في خلق أفق أبهى وأكثر ملائمة لتلك الخصيصة الربانية، واستثمار للإمكانات التي وجدت فيها وانعكاسها على الحضارة الإنسانية والتي نلمس بعض من ذلك الأفق ولازال للمسار بقية.
المريض الذي أوصاه أحدهم بأن الشفاء في يدي (س) قد ذهب إليه وهو يعيش وهماً ينكره عقله ومع ذلك لو قدر لك أن تلقاه وتخبره بذلك قد ينتفض في وجهك مع أنه يحمل من الوعي ما لا يحمله غيره، ولكن حين غرس حقيقة أنكرها عقله وأخفض صوت الوعي تماماً تجاه ذلك الموقف خرج بحقيقة واهمة، ووهم أحق وكأنه أقرّ الحاجز الذي صنعه غيره، واعتمد ذلك الغشاء الذي غطى به عقله وأطفأ به ضوءه.
لطالما جرت الحروب بين أرباب العقل الذي كان قدره أن يعمل فأعملوه وبين أولئك الذين بحّت أصواتهم وفنيت أعمارهم لإسكاته فأبطلوه.
الجميل في الوهم هشاشة أركانه، وضعف بنيانه، ومهما طال عمره فلابد أن يتعرّى أمام المارة، ويخبر عن ذاته، ويكشف حقيقته للعيان.
ختاما…كن يداً في نبش قديم الأوهام وزلزلة حاضرها ولك الجنة بإذن الله..