في عام 2006 حضرت دورة إعلامية بكلية الصحافة في جامعة “ويسترن” بشيكاغو كان موضوع أحد برامجها “موت الصحافة”.
وفي الدراسة التي قدمها المحاضر شواهد عديدة تُشير إلى اضمحلال دور الصحافة كما نعرفها لصالح الإعلام الرقمي، بكل أشكاله، وتوصل البحث إلى أن أداة الإعلام ستخرج من يد الإعلاميين التقليديين إلى يد المواطن الصحفي، الذي يتجول بكاميرته وهاتفه المتنقل بين مواقع الأحداث، أو يصادف وجوده فيها، فيرفعها من موقع الحدث على حسابه بوسائل التواصل الاجتماعي والمدونات الشخصية والصحف الرقمية؛ لتصل على الفور إلى ملايين المتابعين دون المرور بفلاتر الإعلام التقليدي وإجراءاته المطولة.
أما الأدوات نفسها، فقد كشف الباحث عن تقنيات جديدة تعمل على تطويرها معامل ومختبرات شركات التقنية، وليس الإعلام، ستصبح خلال سنوات منتجات تجارية تصل إلى كل إنسان، وترتبط معًا في شبكة عالمية تسهل تبادل المعلومات الفورية، بالصوت والصورة والفيديو؛ إضافة إلى النصوص المكتوبة، ونبه إلى ضرورة بدء مشوار التحول الرقمي لوسائل الإعلام مبكرًا، قبل أن تضطر إليه شركات الإعلام متأخرة، ويفوت عليها الأوان.
وقتها لم يكن الآي فون الذي أحدث ثورة في عالم الاتصال والتواصل قد خرج بعد، ولا الآي باد، وبقية المنتجات التي لحقت به من شركات منافسة لشركة أبل، ولم يكن الجيل الرابع أو الخامس لشبكات الاتصال المتنقل قد أنشئت. لكن الدراسة أشارت إليها وإلى شبكات الأقمار الصناعية المنخفضة العلو، والقادرة على توصيل البث الرقمي مباشرة إلى الأجهزة المحمولة، بدون الحاجة إلى أبراج أو حتى شركات محلية وسيطة.
معظم ما تنبأ به أو كشف عنه الباحث تحقق بالفعل، ونحن الآن نستعد للثورة الصناعية الرابعة، والجيل السادس، وإنترنت الأشياء، والهاتف الفضائي التجاري، وأكثر من ثمانين بالمئة من المعلومات التي يحصل عليها الناس، في السعودية مثلًا، تصله عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع الإخبارية عن طريق هاتفه المحمول، وتزيد هذه النسبة في بعض الدول الصناعية، مثل كوريا الجنوبية، حتى أصبح التلفاز نفسه في كف اليد.
تنبأ المحاضر وقتها بموت الصحف الورقية في معظم دول العالم على مراحل، تبدأ الأولى منها في العام 2020 وتنتهي آخرها في 2030، وهو ما تم ويتم في كل مكان، وهنا في المملكة. فبعد سنوات من الصراع والمقاومة، استسلمت صحف سعودية رائدة، بدءًا بسعودي جازيت، وانتهاء بصحيفة البلاد، فأوقفت النسخة الورقية، وتستعد صحف أخرى، كالمدينة والوطن ومكة، للحاق بها والتحوَّل إلى النسخة الرقمية.
تذكَّرت كل هذا عندما شاهدت لوحة لمحل في مكة المكرمة، التي نزل بها الوحي، وسورة إقرأ، تحمل اسم “بنشر الإعلام”، ولعل صاحب المحل قصد “الأعلام” وهو اسم الحي، وليس “الإعلام”، ولكن من صنع له لوحته أخطأ في وضع الهمزة، ولم ينتبه للخطأ أو اعتبر أنه أهون من تحمل تكلفة تغييره، والاستغراب هنا أن لا يتنبه مراقبو بلدية المنطقة، وأمانة العاصمة المقدسة.
ثم نبهني زميل إلى مفارقة طريفة وهي أن هذه اللوحة تثبت أن حتى صاحب البنشر أصبح له رأي يشهره من خلال لوحة عامة. لم لا؟!.
الإعلام لم يمت، ولكنه تحوَّل، وتبدَّل، وغير صناعته وصانعيه. لم يعد رئيس التحرير والصحفي والمؤسسة الإعلامية هي الوحيدة القادرة على صناعة الرأي العام، ونشر الخبر والرأي والتحليل، فالكل أصبح صحفيًا وصاحب رأي وفكر، ولم تعد هناك جهات مركزية توثق وتصادق على المعلومة قبل نشرها، فالصحفي المواطن لا مرجعية له، ولم تعد هناك حدود جغرافية تحكم نشر الخبر، فالفضاء الرقمي حول الكرة الأرضية إلى قرية واحدة، وأعين وآذان.
ماذا يعني ذلك لنا؟ ومن سيقود عملية صناعة الرأي وإشاعة المعرفة في هذا المجتمع الرقمي الكوني المفتوح؟ وما هو دورنا في هذا كله؟ وكيف سنضمن مصداقية المعلومة وعدم تسيسها وأدلجتها وتحويلها إلى أداة للسيطرة والتدخل والتأثير على العقل العربي وإدارة الدول؟
الأسئلة كثيرة، والبحوث في العالم نشطة للإجابة عليه، كل من زاويته ومصلحته، وجامعاتنا ومراكزنا البحثية بحاجة للمساهمة في الدراسات العالمية، بدراسات محلية، ترصد الظواهر القائمة، والمتوقعة، الماضية، والحاضرة والمستقبلية المؤثرة على مجتمعنا وثقافتنا وأسلوب حياتنا، وفهمنا للحياة والأمم من حولنا. يكسب أكثر، من ينشط أكثر، ويبدأ أبكر.