قصة قصيرة
إنه صوت عجيب، ذلك الذي يسمعه داخل رأسه الصغير المليء بعشرات الأسئلة المكدسة، أمه مفيدة تضربه بالشبشب كلما أخطأ في شيء ، وتدعك أذنه حتى تحمران ، وتشد شعره حتى يحس بأن فروة رأسه تمزقت، لم تكن تفعل ذلك قبل أن يموت أبوه ، فقد كان يتولى تربيته بشكل طبيعي ، وبدون ضرب أو إيذاء .
لم يضربه إلا مرات قلائل ، منها مرة نزل المالح بدون إذنه ،فلما عاد مبتلا خاف عليه من الغرق ، ومرة حين نقصت درجاته في مادة اللغة العربية سبع درجات كاملة ،وقد اغتاظ منه لكونه جعله يحفظ ربعين من القرآن مع تفسيرهما، فلماذا لا يحقق التفوق في هذه المادة بالذات ؟ أما المرة الثالثة فهي التي كمن فيها عند مدخل البيت ، وأحدث بفمه ويديه المتكورتين صوت عفريت عند مقدم بائعة اللبن التي صرخت وهرولت ؛ فانسكب الحليب على بسطة السلم ، وعرف المذنب ، ونال نصيبه كاملا .
في كل مرة كانت ” العلقة ” بسيطة ، مجرد خبطات سريعة ، متعجلة ، تحدث بعض الرضوض في جسده ، لا ترى إلا عند الاستحمام .
كان أبوه يختار الأماكن التي يضربه فيها بحرص ؛حتى لا يؤذيه ،يبتعد عن الجمجمة والصدر و” الحمامة ” ، فيما يكيل له الضرب فوق أي مكان آخر ،وبعصا رفيعة تسرسعفي الهواء .
إنه يشعر بالحزن ؛لأن أمه تقسو عليه ، ولاتدللـه،فهو في العاشرة ، ويعد أكبر أولادها ،غير بنت في الثامنة ،وولد في الخامسة ، وكلما تدخل الجيران ؛لإيقاف نوبة الضرب ، ردت عليهم بشكل عنيف :” عايزاه يطلع راجل”.
الأب المنجد كان يعلمه بشيء من التريث أن الحسنة بحسنة ،والسيئة بسيئة ، ويعطيه مبلغا من المال إذا انتهى من ” الطريحة ” في مز أحبال الكرينة قبل موعدها ، وكان يتبعه كظله ، فيقطع تذكرة بمدرج الدرجة الثالثة، ويدخله معه مباراة كرة القدم ، فإذا طلب مراجع البوابة تذكرة ثانية للولد ، كبسه بيده فبان أقصر ما يمكن ، ويرد محتجا :” ده يا دوب 3 أشبار”.
كان كل صباح جمعة يأخذه معهلاصطياد السمك في النيل ، أمام عوامة الخواجة ، هو يصطاد سمكة الشبار ، ويمد يده بها، فيضعها الصغير داخل سلة من الخوص، ويحكم الغطاء ،وقد علمه طريقة وضع الطـُعم في السنارة، وكيفية الإحساس بالغمز ، وجعله يصطاد إلى جواره ، وقد شعر بالسعادة حتى أنه راح يتنطط مع أول سمكة يصطادها، كانت تحرك زعانفها في استماتة للإفلات ، وهو يصفق لنفسه ، ولم ينس،قبلة أبيهعلى خده بعد اصطياد السمكة السابعة، لما عادا إلىالبيت،أخبر الأم إن ابنها اصطاد نصف السمك ، ولم يكن هذا صحيحا ، واكتفت أمه بلكزة خفيفة مرحة في خصره .
في يوم أخذه معه إلى متجر بيع القماش ، وسأله عن اللون الذي يحبه ، فهمس في أذن الأب : ” أحب الأخضر” ، فقطع البائع مترا كاملا، ودفع الأب للمتجر الثمن من القطع الفضية التي تخشخش في جيبه ، ورجع يجهز مقعدا صغيرا ؛كي يثبته على ماسورة الدراجة.
يجلس على كرسيه الجلدي المضغوط ، ويجعله أمامه على المقعد الأخضر الناعم ، يمد يده، فيضرب الجرس؛ حتى يبتعد الناس عنمنتصف الطريق ، والجرس يرن ، ويلعلع في الجو ،فيشعره أنه صاحب صوت، يتحرك معه الكبار قبل الصغار،في مرة ضرب الجرس فلم تبتعد العنزة ، وتوقفت الدراجة ،حتى عبرت الطريق ،عرضيا وحدثه أبوه :” تعامل مع كل مخلوق على قد عقله”!
لا تعترف أمه بهذا الكلام ، فهي تضربه على أقل هفوة ، وتريده مطيعا ، مؤدبا ، مهذبا ، وهو لا يعرف أن يخفي مشاعره.
في مرة أتت خالته بثينة ، وجلست تشرب القهوة ، وتنتظر قرآن الساعة الثامنة والنصف مساء ،فأخبرها إن عليها الانصراف قبل نشرة أخبار التاسعة ؛حتى لا تسهر أمه ، فلا يمكنها القيام بإيقاظه للذهاب إلى المدرسة .
فور خروج الخالة من باب الشقة ، ورؤيته حالة الإحراج التي جعلتها مضطربة في ارتداء حذائها ،لم يشعر إلا بأول هبدة على جذعه ،ثم تتالت الضربات ،وهو يصرخ، وأمه تطارده من حجرة إلى أخرى.
بعدها بيومين أرسلته لبيع كومة من بيض الدجاج، فحصل من البقال على المبلغ الذي يشتري به الفول، والطعمية ،والعيش الساخن، تأخر، وعاد بأوراق الشفاف الملون، ورصة من الغاب الرفيع؛ لصنع طيارة ورقية ، يومها جاءت له بعصا غليظة ، وبدأت الخبطات ، ولما انفلت منها، واختبأ تحت السرير ،توعدته إن لم يخرج بالحسنى، فسوف تخنقه، وهو نائم، وتستريح منه ، فخرج ،ومعه العصا الرفيعة التي لم يكن أبوه يستخدمها إلا في أضيق الحدود: ” اضربي بالعصاية دي أحسن لك ولي ” ،فرمتها في وجهه ، وظلت تلوح بالعصا الغليظة ،حتى نالت منه .
في المرة الأخيرة لم يكن ما فعله يستوجب أي ضرب ، فقد أراد أن يزوج كلبا لقطة ، وحبسهما سويا في عشة خالية ،منتظرا النتيجة ، ولما لم يحدث ما توقعه بعد مراقبة يومين كاملين ،فكر في أن يزوج الدجاجة لذكر الحمام ، ولما زهق من تجاربه الفاشلة أطلق ذكر الحمام في الفضاء الأزرق ، واكتفى بما هو موجود فوق السطح من حمام كسول .
اعترف لأمه بما فعل ،فكانت الخبطة الأولى التي تلتها خبطات موجعة ، ولم يعد فرد الحمام نهائيا للعش، لطمته على وجهه، وهي تقول له بغيظ:” حضرتك عايز تبقى عالم سلالات،ربنا ياخدك “.
لقد نزلت الآن؛ لشراء قطن، وصبغة يود من صيدلية قريبة بعد الجروح التي أحدثتها بالعصا، يصعدإلى الدرجات الأعلى ،فيجد دراجة الأب ،مستندة على جدار السلم ، ينفض كرسيه فيجد التراب قد تحول إلى غبار خفيف ، يضرب الجرس ؛فيشعر بالصوت أخرس،يهبط الدرجات يعود إلىالبيت ، يدير مقبض الغرفة المغلقة ، وداخل الصالون يتأمل صورة الأب ، يشقيه أن ابتسامته ظلت ملازمة الإطار، حتى بعد موته بأشهر،يحدثه بشيء من العتاب الرقيق :” سايبني آكل الضرب ده كله، وحضرتك ساكت”؟ ينتظر لحظات؛ كي يسمع ردا ، وعندما يجابهه الصمت، يستطرد باحتجاج مفرط في مرارته :” ما هو كان لازم تقولها قبل ما تموت : تضربني بشويش، وبالعصاية الرفيعة “.
يتنصت إلى صوت قدميها الصاعدتين على درجات السلم ، يعرف أنها قد عادت بالقطن والشاش وزجاجة صبغة اليود، لن يكشف لها عن جراحه المخفية تحت القميص ، سيكتفي بالجروح الظاهرة،ولابد بعد أن تدخل حجرة نومها أن يتسلل ثانية للصالون ؛ فربما كان هناك تصرف ما لمواجهة هذه الضربات الموجعة ؟ قد يسعفه أبوه بحل لم ينتبه إليه ، وسيكتفي بتفسير نظراته الموحية .
————–
– الحائز على جائزة ساويرس لكبار الكتاب