في مؤلَّف الكاتبة الإنجليزية فرجينيا وولف الأكثر شهرة “غرفة تخص المرء وحده” الذي يُعد في الأدبيات النسوية بمثابة بيان حقوقي يتناول حرمان النساء حق الكتابة والتعبير عن الذات؛ تختزل الكاتبة الرسالة التي يحملها الكتاب في جملة واحدة هي: “إذا أرادت امرأة الكتابة فيجب أن تكون لها غرفة، ودخل منتظم مهما كان ضئيلًا”.
ولا نشك أن حدًا معقولًا من الاكتفاء الاقتصادي جانب مهم يؤهل الكاتب، بغض النظر عن جنوسته، للشعور بأهمية الكتابة التي قد تتحول بفعل تنازلات الفقر إلى جنس من الرفاهية المترفة، أما الغرفة فحاجة لا ترتبط بهندسية المكان، بمقدار ارتباطها بالاستحثاث الفكري؛ كما أنها قد لا تتواءم مع الصورة الفنية للمكان الخاص وفق باشلار الذي يراه الموضع الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكل فيه خيالنا. وخصوصية المكان الكتابي تبدو بالفعل محفزة على الانثيال الفكري لدى المرأة، فقلما وجدنا امرأة تعلن ممارستها الكتابة في فضاء خارجي يخلو من إحاطة الجدران المعتادة، واعتلاء السقف الخاص؛ على أن حقيقة تلك الخصوصية شعورية نفسية يرتفع منسوبها كلما تضاءل معدل الأمان والتقبل، وزاد الشعور بالتسلط الخارجي.
والغرفة بهذا المفهوم ليست لها قصدية وصرامة الفعل الثقافي الذي تكرسه غرفة المكتبة، بل مرونة مكانية تنتقل بين غرف المنزل وفق انتقاء الكاتبة لمكانها الاستلهامي من ناحية، والمؤهبات النفسية الحرة التي تقدمها ذات الغرفة بما يتجاوب مع النمط الكتابي من ناحية أخرى؛ آذر نفيسي أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية، ومن قبل بجامعة طهران التي فُصلت منها بسبب رفضها الإجراءات الإلزامية التي مارستها السلطات الثورية الإيرانية ضد النساء؛ حين كتبت سيرتها الذاتية “أن تقرأ لوليتا في طهران” قدمت ملالي الثورة الإيرانية والمشرفين على تنفيذ قوانينها بوصفهم عامل التسلط الذكوري ضد المثقفات الإيرانيات، وشكّل ارتداء الحجاب الذي صار إلزاميًا منذ أيام الثورة الأولى رمزًا للوصاية الجبرية لديها كما هو لدى مثقفات أخريات كتبن سيرهن وكانت الثورة هي نقطة التحول فيها؛ كسيرة الفائزة بجائزة نوبل للسلام شيرين عبادي المعنونة بـ “إيران تستيقظ؛ مذكرات الثورة والأمل”، وسيرة الشاعرة والرسامة والصحفية كامليا انتخابي المعنونة بـ ” كامليا؛ سيرة إيرانية”.
افتتحت “نفيسي” سردها السير ذاتي بالإشارة إلى ما فعلته بعد مغادرتها الجامعة حيث قررت دعوة سبع من أفضل طالباتها إلى اجتماعات أسبوعية في منزلها لخوض مناقشات في الأدب الصرف؛ لا تتجاوزه إلى ما قد يعرضهن للاصطدام بالسلطة، وكان لغرفة المعيشة في بيتها مدلولها الرمزي، حيث قامت بدور المقاومة النسوية الداخلية وإعلان الرفض الفكري لما يحدث في الخارج، وهي تتمعن مفارقة الألوان التي “تتفجر” من طالباتها بعد أن يلقين بأرديتهن الخارجية وحجاباتهن الإلزامية، حين تمدهن غرفة معيشتها بالقوة اللازمة للتحدي، غير أن تأثير غرفة المعيشة على ذلك النموذج النسوي المصغر لا يقتصر على استعادة شعور الحرية والحياة؛ بل يتجاوزه إلى تعرّفهن بذواتهن الفذة، وتحديد الخط الخاص بكل واحدة منهن. وتعلق الكاتبة على ذلك المنطلق الرمزي لغرفة المعيشة بقولها: “فمن غرفة المعيشة، تلك التي كان يؤطر شباكها جبال البرز التي أعشق، كنا قد صنعنا عالمنا وصومعتنا الخاصة. ابتدعنا كونًا شخصيًا مستقلًا يسخر من واقع الإشاربات السود والوجوه المذعورة لتلك المدينة التي تدب بعشوائيتها دوننا.”
ويلوح في أكثر من موضع في سيرتها أن غرفة المعيشة صارت معادلًا موضوعيًا لذات الكاتبة ومقاومتها، فهي تراها تمثل طريقة معيشتها العشوائية والهامشية بعبثية أثاثها، وترفض أن تغطي نوافذها بالستائر دون بقية غرف المنزل “حتى ذكّروني أخيرًا أننا في دولة إسلامية ولا بد للشبابيك من أن ترتدي سترها” وفي موضع آخر تقول: ” لقد أصبحت هذه الغرفة بالنسبة لنا معقل الآثام، وتراءت لنا وكأنها بلاد العجائب” لقد أصبحت تلك الغرفة فيما بعد، وفق تعبيرها، التفصيل الأعز بين تفاصيل الذاكرة.
وغرفة المعيشة التي تحتم طبيعتها الاندماج مع الأخريات لتحفيز المقاومة والصمود لا تبدو مكانًا مثاليًا للكتابة النسائية المأزومة بهم داخلي، المشتغلة بالسرود النفسية الناسجة على معطيات اللاشعور، وبتقنية ميتاسردية كانت ممارسة الكتابة إحدى مفاتيح الوعي، وطقس عبور إلى ضفة التواصل الروحي بين عائشة وذاتها في رواية “عائشة تنزل إلى العالم السفلي” لبثينة العيسى، فالكاتبة اختارت التقنع بشخصية عائشة عبر الإعلان صراحة عن نيتها كتابة نص سردي يتماهى مع السرد السير ذاتي: “أنا عائشة. سأموت خلال سبعة أيام. وحتى ذلك الحين قررت أن أكتب” ومع ثنائية الموت والكتابة تظهر الغرفة لتشكل معهما ثالوثًا شديد الوطأة، لكن الوهن والتوحد بالكتابة يحفّز محاولات الإنقاذ وإعادتها إلى الحياة “رأيت شقتي – جغرافيا سكوني- عرضة لاجتياجهم وتدخلاتهم، يجلسون الآن في الصالة، يتصرفون مثل حراس للصحة وقيمين على شؤون الحياة” وهذه المحاولات تترجم بعين الكاتبة في صورة قمع لحريتها؛ فتهرب من غرفة المعيشة “الصالة” التي تجمعها بهم إلى غرفة النوم التي بدت ملبية لحاجتها الكتابية “لم يسمحوا لي بالعودة إلى غرفتي إلا بعد أن أقنعتهم بأني ذاهبة إلى النوم. ولكنني الآن أكتب..” وهي تدرك وطأة الكتابة التي تعنيها الغرفة؛ فتهرب إلى غرفة المعيشة أحيانًا بحثًا عن الشريك والسند، لكنها مع ذلك تعبِّر عن خروجها من غرفة الكتابة بقولها: ” غادرت غرفتي، غادرت جغرافيا الصمت، وطأت الأرض المدنسة، أرض العادي! ذهبت إلى غرفة الجلوس”.
تلك أمثلة تطبيقية لظهور الغرفة المستحثة للكتابة النسائية على الصعيدين الحقوقي الخارجي والنفسي الداخلي؛ ولا شك أن لرمزية الغرفة تداعياتها الكتابية الأبلغ عُمقًا من أن تبحث في عجالة مقال واحد.