(حفل تكريمه في النَّادي الأدبيّ بجُدَّة، 23 ربيع الأوَّل 1444هـ = 19 أكتوبر 2022م)
قُلْتُ للدُّكتور عبد المحسن القحطانيّ، قبل زمنٍ ليس ببعيد: ليتني أقرأُ عليك كِتاب الوساطة بين المتنبِّي وخُصُومه للقاضي عليّ بن عبد العزيز الجرجانيّ! وكُنْتُ أُعِيدُ إلى ذاكرته دَرْسًا قديمًا في قِسْم اللُّغة العربيَّة وآدابها، عُهِدَ إليه فيه تدريس مقرَّر (كِتاب قديم)، وكان القائمون على أمر القِسْم يريدون مِنْ ورائه وَصْلَ طُلَّاب الآداب العربيَّة بأُمَّهات الكُتُب في تراثنا، حتَّى يَكُونَ لهم مِنْ تلك الصِّلة فَهْمٌ أَوَّلِيّ لمعرفة الطَّريقة التي اصطنَعَها القومُ في التَّفكير، وأساليبهم في الكِتابة والحِجَاج والجَدَل.
قال أستاذُنا في أوَّل دُرُوسه: فلْتقترِحُوا كِتابًا في الأدب القديم أو النَّقْد يَكُون موضوعَ دُرُوسنا في ذلك الفصل! وصارَ حِوَارٌ مفيدٌ بيننا، نحن طُلَّاب الدَّرْس، وأستاذنا، وأذكر أنَّني اقترحْتُ كِتاب الموازنة بين الطَّائيَّين لأبي القاسم الحسن بن بِشْر الآمديّ، واستحسن أستاذُنا الكِتاب، وعَدَّدَ مزاياه وخصائصه، لكنَّه أشارَ علينا بانتخاب كِتاب الوساطة، وعَلَّلَ اختياره – أوْ ترجيحه – لتأخُّر القاضي الجرجانيّ على الآمديّ في الزَّمن؛ ولأنَّ الكِتاب يشتمل على مُجْمَل المسائل التَّي عَرَضَ لها النَّقد العربيّ حتَّى زمن الوساطة، وأَجْمَعْنا على ما أراده أستاذُنا واستعددْنا للكِتاب والدُّرُوس.
على أنَّ عارِضًا صِحِّيًّا أَلِمَّ بأستاذنا الدُّكتور عبد المحسن، ألزمَه البيتَ فصلًا دراسيًّا كامِلًا، وحَلَّ أستاذُنا الدُّكتور عليّ البطل – رحمه الله – بديلًا مِنْه، وسارَ الدَّرْسُ كما خُطِّطَ له، وانتفعْنا بـ الوساطة، وبدُرُوس أستاذنا البطل، ومضى كُلٌّ مِنَّا، بَعْدَها، إلى غايتِه فاطَّرَحْتُ أفكارًا، وآمَنْتُ بأفكارٍ، ومضيْتُ في الحياة أوْ مضتْ بي، صُعُودًا وهُبُوطًا، وكُنْتُ، في كُلِّ أحوالي، قريبًا مِنْ أستاذي الدُّكتور عبد المحسن القحطانيّ، في النَّادي الأدبيّ، وفي منزله العامِر، وفي الحياة الثَّقافيَّة، لا نكاد نفترق حتَّى نلتقي، فإذا التقيْنا كان حديثٌ، وكان حِوَارٌ فيما يُلِمُّ بحياتنا الأدبيَّة والثَّقافيَّة، وكُنْتُ، ولا أزال، أُحِسُّ مِنْ نَفْسي رَغْبةً في الدَّرْس والتَّعَلُّم، لا فرقَ لديَّ بين كُتُبٍ لها شأنُها في تراثنا العربيّ، وكُتُبٍ في الأدب الحديث والثَّقافة الحديثة.
رَحَّبَ أستاذي برغبتي في أنْ أدرس على يديه، مِنْ جديد، كِتاب الوساطة بين المتنبِّي وخُصُومه، وصَرَفَنا عنْ تحقيقها، وهي لا تزال قائمةً، حتَّى الآن، تَيَّارُ الحياةِ الَّذي يُلْهِينا عَمَّا نُرِيد، وأذكر أنَّني عَرَضْتُ عليه رغبةً أخرى: أنْ أختلِفَ إليه في منزله وأقرأ عليه عِلْمَ العَرُوض، فإذا أَحَسَّ في تلميذه فَلَاحًا أَجازَه بإجازةٍ على نَحْوِ ما كان أشياخُ العِلْم في تاريخنا يُجِيزُ بعضُهم بعضًا، ورَحَّبَ الأستاذ القدير، وأحسبُ أنَّ عَلَيَّ وعليه الوفاءَ بهذه الغاية العِلْمِيَّة الشَّريفة!
وما كُنْتُ لأرغبَ في تَلَقِّي الوساطة تَرَفًا، ولا بأسَ في التَّرَف في العِلْم والثَّقافة، لكنَّني كأنَّما أردْتُّ أمرين: تعويضَ ما فات مِنْ دَرْسٍ، وتَذَوُّقَ طريقةِ الأستاذ ومنهجِه في القراءة والدَّرْس والتَّحليل، ولستُ أُخْفِي أنَّ شيئًا يشبه الألم، أوْ هو الأَلَمُ نَفْسُه، يُدَاخِلُني كُلَّما تَذَكَّرْتُ أنَّ القَدَرَ حال بيننا وبين أستاذنا وكِتاب الوساطة، وعساني لمَّا ضَرَبْتُ في غابة الثَّقافة يَمْنةً ويَسْرةً، وجَرَّبْتُ ألوانًا مِنَ القراءة والتَّلقِّي = أَجَمْتُ ألوانًا مِنْها، وصِرْتُ أَمْيَلَ إلى لونٍ مِنَ القراءة والتَّلقِّي هو، في ظَنِّي، أَدْنَى إلى منهج العرب في الدَّرْس والقراءة، ولستُ أنفي تنوُّعَ القراءة وتعدُّدَها، وإنَّما أَصِفُ شُعُورًا لا يلبث، على الأيَّام، يقوَى في نَفْسي، ويَمِيلُ إليه عقلي، ويتطلَّبه وجداني، ورَجَّحْتُ أنَّني سأنالُ هذه الغايةَ وألقاها لوْ جَلَسْتُ مِنَ الدُّكتور عبد المحسن مجلس التِّلميذ مِنَ الأستاذ.
كُنْتُ أبحث في الوساطة عنْ شيءٍ خَبِيءٍ فيه، وما كان يعنيني ما انطوَى عليه مِنْ مسائلَ في النَّقد الأدبيّ، هي، لا شكَّ، واحِدةٌ مِنْ خصائصه = كان يعنيني منهجُه أوْ طريقتُه في القراءة والتَّذوُّق، كيف اهتدى القاضي عليّ بن عبد العزيز إلى أسلوبه في قراءة شِعْر المتنبِّي، ومِنْ ورائه الشِّعْر العربيّ حتَّى زمن تأليف كِتابه؛ ذلك أنَّ مسائل الكِتاب، وما انطوى عليه مِنْ مشكلات النَّقد العربيّ القديم، والخُصُومة بين مذهبٍ في الشِّعْر ومذهب، والرُّدُود، والأدِلَّة، والحِجاج = نلقَى كُلَّ ذلك في أيِّ كِتابٍ جامِعيّ هَمُّهُ التَّأريخ للنَّقْد الأدبيّ عند العرب، وتصنيفُ مذاهبه ومناهجه، وأنا لا أريد ذلك، على قيمته ومقامه، إنَّما أبتغي بُلُوغَ طريقة القوم في القراءة = إنَّني أريد شيئًا لا سبيل إليه إلَّا في قراءة النُّصُوص وتذوُّقها، فإذا بلغْتُ ذلك اهتديْتُ إلى منهج القاضي الجرجانيّ في القراءة، وطريقته في التَّذوُّق، هذه الكلمة الأخيرة الَّتي استهنَّا بها، كثيرًا، حينما عَدَدْناها مرادِفةً للهوَى، وحسبْناها مِنَ الكلمات الرَّديئة، وما كانَتْ، في يومٍ مِّنَ الأيَّام، رديئةً، وعليها قِوَامُ الأدب والنَّقد.
إذنْ، كان القاضي الجرجانيّ “متذوِّقًا”؛ كان متذوِّقًا حينما هَدَاهُ اتِّصالُه بالشِّعْر إلى مَضَايِقَ لا سبيل إلى الفَصْل بينها، وهو النَّاقد القاضي الفقيه، بما سوى “الذَّوْق” و”الخِبْرة”، و”المَرَانة”، وإنَّه لَيَهْدِينا إلى أنَّه لا سبيل لنا إلى تفضيل قصيدةٍ على قصيدةٍ، وموازنة شاعرٍ بشاعرٍ بغير ذلك الذَّوْق الَّذي يبلغ أن يَكُون شيئًا نُحِسُّه ولا سبيل إلى تعيينه إلَّا بالحَدْس، أوْ ما يَظْهَر لنا أنَّه حَدْس.
وعلى ذلك كان عبد المحسن القحطانيّ!
نَظَرَ فيما بين يديه مِنْ مناهجَ في النَّقْد وأساليب في القراءة، ومالَ إلى النَّصِّ، وعنده أنَّ العمل الأدبيّ هو الَّذي يَحْمِلُ النَّاقدَ على تخيُّر منهجه أوْ أسلوبه؛ فالمنهجُ المُعَدُّ مِنْ قَبْلُ، على ما فيه مِنْ إغراء، عساه يُنْزِلُ النَّصَّ والنَّاقدَ على مشيئته وهواه، وليس مِنْ “منهجٍ” إلَّا ذلك الَّذي يجعل النَّصَّ أساسًا له ومِهادًا، وإنَّه ليقول: إنَّه أَدْنَى إلى “النُّصُوصيَّة”، على أنَّ طريقته في تحليل النُّصُوص – ومَنْزِعُها الذَّوْقُ والخِبْرة والمَرَانة = قِوَامُها اتِّصالٌ بالشِّعْر، ومعرفةٌ بعيدة الغَوْر بمذاهبه وأساليبه، فإذا رَفَعْنا عبدَ المحسن القحطانيّ إلى منهجٍ أوْ أسلوبٍ أوْ مذهبٍ في النَّقد فهو أقربُ رَحِمًا إلى طريقة القاضي عليّ بن عبد العزيز الجرجانيّ، ومِنْ قَبْله الآمديّ ومَنْ إليهما مِنَ النُّقَّاد العرب. صحيحٌ أنَّ لديه ميلًا إلى المنهج الأسلوبيّ، يلفته المعجم الشِّعْريّ، والمقابلات اللُّغويَّة، ويستعين، شيئًا مَّا بإحصاء الكلمات، يرجو مِنْ ورائه بُلُوغ المَزِيَّة، بَيْدَ أنَّه لا يَعْنُو، فيما نَهَدَ إليه، لغير الذَّوْق والخِبرة والمَرَانة، فلا يتكلَّف حديثًا في المنهج، ولا النَّظريَّة، مِمَّا يُغْري رُصفاءَه في الجامِعة، فلمْ نَعْرِفْ عنه، وهو قديم عهدٍ بالجامِعة، أنَّه أُغْرِيَ بما يَلُوكُه لفيفٌ مِمَّن ينتسب إلى هذه المؤسَّسة، حيث عَمِلَ عبد المحسن ودَرَّسَ، بلْ إنَّ فيما خَلَّفَه مِنْ نقدٍ للنُّصُوص الشِّعْريَّة، وهو نَزْرٌ يسيرٌ، ما يَجْعَلُ منزعه في القراءة والتَّحليل أدنَى إلى ذلك النَّقْد الَّذي نلقاهُ في الجامِعة قديمًا، قبل أنْ تستأثِرَ المناهجُ الحداثيَّةُ وما بعدها بكُلِّ شيء، ولا تتركَ مِنْ تراث الأساتذة الرُّوَّاد إلَّا ثُمَالةً قليلةً يتداولُها جمهرةٌ مِنَ الأساتذة، وعبد المحسن القحطانيّ مَعْدُودٌ فيهم.
وأستطيع أنْ أُسَمِّيَ عبدَ المحسن القحطانيَّ “ناقِدًا هاوِيًا”، وعساهُ أَمَتُّ إلى رُوح الأدب؛ فالنَّقْدُ الأدبيّ، ولا سيَّما نَقْد النُّصُوص الأدبيَّة، ليس عملًا نتكلَّفُه كُلَّ حِين، متى أردناه مُصَاقِبًا للنَّصِّ، وعندي أنَّ ناقِدَ الأدب غيرُ مستطيعٍ، في كُلِّ حالاته، أن يُحَلِّل نَصًّا مَّا، بلسان عصرنا، أوْ يَشْرحه، بلسان أسلافنا؛ فالكلامُ على الكلام شاقٌّ، وليس لنا أنْ ننسَى كلمةَ إبراهيم بن إسحاق الموصليّ تلك الَّتي قالها في الألحان والأنغام، لأنَّها تصدق، كذلك، على الشِّعْر وفُنُون القول: “إنَّ مِنَ الأشياءِ أشياءَ تُحِيطُ بها المعرفةُ ولا تؤدِّيها الصِّفة”، وكأنَّما أَحَسَّ عبد المحسن القحطانيّ شيئًا مِنْ ذلك في بعض الشِّعْر، إنَّه لَيُحِسُّ أَثَرَ الشِّعْر في نَفْسه ثُمَّ لا يستطيع بيانًا له، ولمْ يَصُدَّه شيءٌ عنْ أن يَبُوح بهذا المأزق الَّذي نلقاه في الفَنِّ ويتعاصَى على النَّقْد، وعنده أنَّ شِعْر حسين سرحان – وهو شاعِرٌ أثيرٌ لديه – فيه شيء مِنْ ذلك؛ فيه “هذا الشِّعْر البسيط الَّذي يَحَارُ النَّاسُ في تحليله؛ لأنَّه لا يرتكز على الخَيَال المُحَلِّق أو الاستعارة البعيدة، وإنَّما الشَّاعِر وَجَدَ مادَّته مُلقاةً بين يديه، أوْ خُيِّلَ إلينا ذلك، وكُلَّما ذَكَرَ لفظًا مِنْ هذه الألفاظ استوقد فيه: النَّار. النَّمارِق. الحَشَايا”. (ص 37)
قال عبد المحسن القحطانيّ عن الآصِرة الَّتي تَصِل شاعِرَه حسين سرحان، والجِيل الَّذي يَعْتَزِي إليه، باللُّغة العربيَّة: إنَّها ضَرْبٌ مِنَ المَحَبَّة (ص 28)، ولا يختلف الأمر، كثيرًا، إلَّا في طبيعة الفنّ وأصله، عنده؛ فالنَّاقِدُ، كذلك، يشارك شُعراءَه هذه الغاية، وما النَّقْدُ إلَّا لونٌ مِنَ المَحَبَّة؛ مَحَبَّةِ الأدب، وبخاصَّةٍ الشِّعْرُ، مالَ إليه وأَحَبَّه، ولعلَّه كان يتهيَّب الاقتراب مِنْه، حتَّى ظَنَّ تلامذتُه، وأقرانُه، وقراؤه أنَّ صَنْعَته لا تَعْدُو موسيقا الشِّعْر وبُحُورَه وأعاريضَه. كان أستاذًا مبرِّزًا في هذا الفنِّ الصَّعْب الوَعْر، ولمْ يَنْسَ العَرُوض لَمَّا اقتربَ، باستحياءٍ مِنَ الشِّعْر، ولاءَمَ بين النَّقْد والعَرُوض، وآنَسَ مِنْ وَحْشَته، فإذا هو أليفٌ مستأنَسٌ.
كان بِوُسْع عبد المحسن، أوَّلَ اتِّصاله بالدَّرْس الجامِعيّ، أن يستعين بمنهجٍ مِنَ المناهج الَّتي جَعَلَتْ تُطِلُّ على الجامِعة، فتَلَقَّفَها كوكبةٌ مِنْ أساتذتها، وكان الزَّمانُ مُوَاتِيًا، والعُمْرُ في زَهْرته = كان بِوُسْعه أن يَفْتِنَ النَّاسَ بكَلِمٍ جديدٍ في البنيويَّة، فإنْ لمْ تَكُنْ إيَّاها فحَسْبُه أن يَتَهَجَّى طَرَفًا مِنَ الأسلوبيَّة، لوْ رامَ رطانةً حداثيَّةً أوْ شِبْه حداثيَّةً، وما كان ليُلامَ ولا لِيَثُورَ به الأخصامُ لوْ مالَ إلى هذه الأخيرة، وهي مِمَّا يُلْقِيه الأساتذة ويتلقَّاه الطُّلَّاب في الجامِعة الَّتي ينتسب إليها، والقِسْم الَّذي يحاضر فيه، ولكنَّه لمْ يَفْعَلْ، وما كان في الأَخْذ بهذا المنهج أوْ ذاك مشقَّةٌ، وهو قادِرٌ لوْ أراد!
كان يُدِيمُ النَّظر حوالَيْهِ، يَثُور، قريبًا مِنْه، غُبارُ الحداثيِّين والمُحافِظين، وراقَهُ التَّوَسُّطُ بين هؤلاء وأولئك، ورُبَّما عَدَدْنا ذلك جِبِلَّةً فيه وطَبْعًا، أوْ عساه أرادَ أن يَكُون “بين منزلتين”، وهذا عنوان ترجمته الشَّخصيَّة، وأنا أَمِيلُ إلى الطَّبْعِ والجِبِلَّة، لكنَّهما ليسا ما أرادهما في ترجمته تلك؛ إنَّما هُما جِمَاع مُعايَشته للأدب العربيّ، ولي أنْ أُفَسِّرَ شيئًا مِنْ ذلك باتِّصاله، أوَّلًا، بالمعهد العِلْمِيّ السُّعُوديّ، حيث كانتْ دراستُه العامَّة، واختلافِه إلى جامِعة الإمام بالرِّياض، ثانيًا، ومتابعة دراستيه العاليتين في الجامِعة الأزهريَّة، على أنَّنا نَلْقَى في عبد المحسن رُوح الأديب الَّذي يتعشَّق الكلمة، ويطرب لجمالها، متى خطبَ أوْ كَتَبَ، فلمَّا تَقَدَّمَ، قليلًا، صَوْبَ الشِّعْر، يتقرَّب إليه، كانَتِ الفُصُول الَّتي أنشأَها لها مَذَاقٌ مختلِف؛ في استقلالها بنَفْسها عمَّا يَلْهَجُ به الأقرانُ والأنداد، وأنَّها دَلَّتْ على رُوحه وشخصيَّته، وما أُسْمِيه “مَحَبَّة النَّقْد”، وهلْ لقاءُ النَّاقدِ النَّاقدِ بالأثر المنقودِ إلَّا ضَرْبٌ مِنَ العِشْق ولونٌ مِنَ المَحَبَّة!
سأعود، الآنَ، إلى رغبتي الَّتي عالَنْتُ بها الدُّكتور عبد المحسن القحطانيّ: أنْ أقرأَ عليه كِتاب الوساطة بين المتنبِّي وخُصُومه للقاضي عليّ بن عبد العزيز الجرجانيّ! ذلك أنَّه تَمَلَّكَني شُعُورٌ، بعد كُلِّ هذه السِّنين، أنْ سألقَى لديه “منهجًا” باتَ، اليومَ، غريبًا، وما كان، مِنْ قَبْلُ، غريبًا، عساه يَستبقي مِنْ أسلوب الأسلاف في القراءة والتَّلقِّي أثارةً، ولوْ يسيرةً، وذلك أنَّه ما صَدَّ عمَّا حَوَالَيْه مِنْ مناهجَ ووسائلَ في قراءة النُّصُوص وتحليلها إلَّا بعد أنْ رَازَها وعَجَمَ كِنانتها، فلمْ يَمِلْ إليها إلَّا قليلًا، وما بَهَرَتْه، ولا سَحَرَتْه، ولمْ يُغْرِهِ ما فيها مِنْ ذُيُوعٍ وانتشار، وكان زاهِدًا، حِينَ هَرْوَلَ إليها أندادٌ وزُملاءُ.
هكذا حَسِبْتُ عبدَ المحسن القحطانيّ، ورُبَّما كُنْتُ أُلْقِي عليه ما صَوَّرَه لي ضميري، وما انتهيتُ إليه، بعد طُول تأمُّلٍ، أوْ لعلَّها المَوَافَقة في الذَّوق، أوْ عساه كان لونًا مِنْ ألوان الحنين إلى “منهج” صارَ غريبًا، وأَدْرَكْتُه، بآخِرةٍ، جِمَاعُه قراءة النُّصُوص والإكبابُ عليها، وتَذَوُّقها، وزادَني به تَعَلُّقًا كلامٌ عالٍ نفيسٌ باحَ به العلَّامة الجليل شوقي ضيف في ترجمته الشَّخصيَّة معي، وفيه يقرأ الطَّالبُ على شيخه “مَتْنًا”، ثُمَّ لا يكتفي بذلك، ولكنَّه يشفع المتن، بـ “شَرْحٍ”، والشَّرْح بـ “تعليقٍ”، أوْ “تقريرٍ”، فإذا الطَّالبُ يَذُوق النُّصُوص ذَوْقًا. ذلك ما عَايَنَهُ شوقي ضيف في تلمذته الأزهريَّة، فلمَّا غَشِيَ كُلِّيَّة الآداب في الجامِعة المصريَّة، ولمَّا صار، فيما بَعْدُ، واحدًا مِنْ أعلام أساتذتها = سَرْعان ما تَذَكَّرَ ذلك اللَّوْنَ مِنَ القراءة، ورجا لوْ أنَّ الجامِعة الحديثة تستلهم طريقة القُدَماء في القراءة والتَّذَوُّق، ودعا إلى عِلْمٍ مستمَدٍّ مِنْ طريقتهم القديمة تلك، ودعاه “عِلْم احتمالات النُّصُوص”، وقَرَّ في عقلي وقلبي أنَّ شيئًا مِنْ ذلك سألقاه ساعةَ أقرأ على شيخي عبد المحسن القحطانيّ الوساطة، ويَصِلُني بمنهجٍ عساه كان مِنْ آخِر شُهُوده يومَ جَلَسَ إلى شُيُوخه الأزهريِّين وتَعَلَّمَ كيف يَذُوق النَّصَّ، وكيف يَتَهَدَّى إلى “احتمالاتِه”!