التقدم الكبير في كافة مجالات تقنية المعلومات، رغم آثاره الإيجابية التي ساهمت في تسهيل العديد من الأعمال وشؤون الحياة وزيادة الكفاءة والإنتاجية، صاحبه تطور في عالم الجرائم المعلوماتية. ونظرًا لخطورة هذا الموضوع وسرعة التطورات فيه، بادرت الجهات المختصة بإصدار نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية لحماية المجتمع وخصوصية أفراده وبيانات مؤسساته، وعلى سبيل المثال جاء في المادة السادسة: (يُعاقب بالسجن مدة لا تزيد على خمس سنوات وبغرامة لا تزيد على ثلاثة ملايين ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين كلُّ شخص يرتكب أيًّا من الجرائم المعلوماتية الآتية: إنتاج ما من شأنه المساس بالنظام العام، أو القيم الدينية، أو الآداب العامة، أو حرمة الحياة الخاصة، أو إعداده، أو إرساله، أو تخزينه عن طريق الشبكة المعلوماتية، أو أحد أجهزة الحاسب الآلي).
في عالم الجريمة التقليدي، يقوم المختصون في (الطب الشرعي) بمعاينة وتحليل مسرح الجريمة، فبعد السرقة مثلًا، يتم تمشيط موقع الجريمة بحثًا عن البصمات وأي دليل قد يؤدي إلى أدلة الحمض النووي للسارق. في عالم الجرائم المعلوماتية، يكون مسرح الجريمة هو أي مصدر يمكن من خلاله جمع الأدلة الإلكترونية ويشمل ذلك أجهزة الحاسب الآلي والأجهزة المحمولة وأجهزة تخزين البيانات التقليدية أو السحابية وأجهزة إنترنت الأشياء (IoT) إلخ.
يعرف المختصون الطب الشرعي الرقمي (الطب الشرعي الحاسوبي، الطب الشرعي السيبراني) بأنه فرع من فروع علوم الطب الشرعي يتعامل مع الأدلة الرقمية جمعًا وتحليلًا مع المحافظة عليها حسب المعايير القانونية.
الأجهزة الرقمية والأجهزة الذكية بشكل عام تسجل الأنشطة والإجراءات التي يقوم بها المستخدمون، مما يوفر كمية ضخمة من البيانات مثل معلومات الاتصال (الوقت والمكان و…)، والشبكة وعمليات نقل البيانات سواء أثناء قيادة السيارات، استخدام الهواتف المحمولة أو أجهزة توجيه العناوين وأجهزة الكمبيوتر الشخصية وإشارات المرور والأجهزة المنزلية، والعديد من الأجهزة الأخرى، هذه البيانات هي بمثابة الأدلة الرقمية التي يمكن الرجوع إليها عند الحاجة.
مع استخدام (البعض) لما يسميه المختصون (دارك/ ديب) ويب (Dark/Deep Web)؛ حيث يبرع المجرمون في إخفاء الهوية، تبرز أهمية الأدلة الرقمية في مكافحة المضايقات والاحتيال والتهديد والابتزاز عبر الإنترنت وغيرها من العمليات غير القانونية، كما أنها تُساعد الجهات المختصة على تتبع الأنشطة الأمنية غير العادية وأعمال الجاسوسية، على سبيل المثال، تمكنت أجهزة الاستخبارات في إحدى الدول من إلقاء القبض على أحد موظفي سفارة أجنبية بتهمة أعمال التجسس من خلال تحليل صوره على تطبيق انستغرام.
يتضح مما جاء بعاليه أهمية ما يسمى بالطب الشرعي الرقمي، وضرورة رفع مستوى الوعي القانوني للأفراد والكيانات، حيث إنه وبالرغم من شدة العقوبات وارتفاع الغرامات في نظام مكافحة جرائم المعلوماتية، لا زال (الكثيرون) يتعاملون مع بيانات تقنية المعلومات بلا مبالاة من حيث التلاعب (الفبركة) بالمقاطع، على سبيل المثال بعد أن تعاقد نادي النصر مع النجم العالمي (رونالدو) ولشدة حماس أحدهم نشر مقطعًا للنجم العالمي وهو يرفع الأذان! قد يكون المقطع غير ذي ضرر وتبدو فيه روح التفاؤل بإسلام النجم العالمي، لكن الأمر مختلف تمامًا مع مقطع آخر انتشر للاعب عربي في أحد الأندية الجماهيرية؛ وكأنه يقوم بحركة (غير أخلاقية) تجاه لاعب آخر! بعد انتشار المقطع (نسي الكثيرون المحتوى السيئ وأضراره)، وتسابق أنصار اللاعب مدافعين عنه، بينما أصرت فئة أخرى على معاقبة اللاعب!
يقول أحد القانونيين: إذا انتشر مقطع مسيء (فالأصل فيه الصحة) حتى يثبت العكس! وبالتالي فإن التلاعب (الفبركة) لا يثبت إلا بالإجراءات القانونية ومن خلال مؤسسة قانونية مختصة، وهي إدارة الأدلة الجنائية بعد أن يُحال إليها الأمر من جهة مختصة.
وحتى وقت تحرير هذا المقال، لم يصدر عن أي جهة رسمية موقف يبين للرأي العام حقيقة المقطع وما إذا كان صحيحًا أو تم تعديله؟ ومن الذي عبث بالمقطع ولماذا لم يعاقب؟ ومن يحفظ حق اللاعب معنويًا من انتشار مثل هذه المقاطع التي سوف تظل موثقة على الشبكة العنكبوتية، ولن يتم سحبها ما لم يبت في شأنها قانونيًا! هذا الصمت غير المبرر من اللجان المسؤولة سوف يؤدي لإذكاء ظاهرة التنمر المتنامية في المجتمع.
خاتمة
من الناحية العلمية، وفي ظل الثورة التقنية المتسارعة في العالم، يبرز تخصص الطب الشرعي الرقمي – Digital Forensics كأحد المسارات الهامة التي تحتاج اهتمامًا من الجامعات المحلية لإتاحة دراسته في كليات الحاسب الآلي، وأرجو أن يكون من المجالات التي يغطيها برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث.
ومن الناحية الاقتصادية، ووفقًا لتقرير سوق تقنيات الطب الشرعي الرقمي لعام 2022 الصادر عن Vantage Market Research، فإنه من المتوقع أن تنتج صناعة الطب الشرعي الرقمي العالمية حوالي 27705 مليون دولار بحلول عام 2028م.