قال صاحبي: كثر الحديث عن الذكاء الاصطناعي، وتوظيفه في المجالات كافة، ومنها الإعلام، فهل سيتقبل الصحفيون وجود هذا الكائن الغريب بينهم، وهل ستتقلص مهنة الصحفيين البشر، وكيف ستصبح العلاقة بين الطرفين، وهل مؤسساتنا الإعلامية مستعدة لهذا التحول الجديد، وما أبرز السلبيات والإيجابيات المتوقعة من دخول الروبوت مجال العمل الإعلامي، وأخيرًا كيف ستصبح صناعة الأخبار مع الروبوت الصحفي؟
قبل عدة أيام تلقيت دعوة كريمة من مركز عبد الرحمن السدير الثقافي للحديث عن الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار، وتعرضت لخلل تقني لا دخل للداعي والمدعو به، ولكنه جزء من طبيعة التقنية الخائنة أحيانًا، وهذا يدعونا لعدم تسليم الراية والانسحاب من بلاط صاحبة الجلالة وتسليمها على طبق من ذهب لهذه الآلة، وهنا تتضح معالم وحدود العلاقة بين الإنسان والروبوت في المجال الصحفي، بأنها علاقة تكاملية، ولكل منهما أدوراه الخاصة التي يقوم بها، فتمازج العقل البشري ذي المواصفات والتراكيب التي لم يكتشف جلها، مع الذكاء الاصطناعي يساهم في إنتاج مادة مختلفة في كمها وكيفها وسرعتها.
وهنا يبرز سؤال مشروع حول جاهزية مؤسساتنا الإعلامية بجناحيها العام والخاص، في التحول لهذا التوجه العالمي، والانتقال بالعمل الإعلامي إلى فلسفة الثورة الصناعية الرابعة، والإجابة على هذا السؤال تحتاج لدراسة علمية أو أكثر تجيب عن مدى تقبل الصحفيين للعمل في البيئة الرقمية الجديدة، وهذا مرتبط بأمرين هما: الفائدة المدركة، والأمان الوظيفي، ومدى قبول إدارة المؤسسات الإعلامية لهذا التوجه، ثم العمل وفق خطط وبرامج مدروسة للتحول التدريجي في إدماج الآلة التي سبقتنا بها المؤسسات الإعلامية في الغرب.
في الفترة بين 2004-2006 كانت الخطوات الأولى لتوظيف الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار، وكانت الأسبقية لوكالة رويترز التي استطاعت إنتاج مئات التقارير الإخبارية في زمن قياسي، هذا النجاح أغرى عددًا من الصحف والقنوات وناقلات الأخبار الغربية بالاعتماد على الخوارزميات في إنتاج القصص الإخبارية، والتقارير الصحفية العاجلة، فعلى سبيل المثال، استطاعت صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” في مارس 2014 بث أول تقرير مصور بعد ثلاث دقائق من وقوع زلزال كاليفورنيا، إذ استطاع الروبوت إنتاج قصص خبرية متكاملة عن واقعة الزلزال من خلال مصادر المعلومات المتاحة لديه، وعبر قوالب فنية جاهزة ساعدت على إنتاج المعلومات بصورة متكاملة.
ولم يقف الروبوت هنا، ولم يكتفِ بصناعة الأخبار، بل استطاع الدخول إلى الاستوديوهات، وقراءة نشرات الأخبار، فبعد نجاح اليابان في ظهور مذيعة الأخبار اليابانية إيريكا، قدم المذيع الصيني “جان جاو” نشرات إخبارية من الاستديو مباشرة دون تدخل بشري، وهي تجارب وابتكارات شكَّلت نقطة تحوّل كبيرة في صناعة حاضر ومستقبل إعلام الذكاء الاصطناعي. عربيًا كان للمؤسسات الإعلامية في دولة الإمارات الأسبقية بتقديم روبوتات استطاعت قراءة الأخبار باللغة العربية.
وفي عالم اليوم اتجهت كبريات الشركات العالمية، والمنصات الإعلامية الشهيرة كتويتر، وفيسبوك، ولينكد إن، وغيرها باستثمار المليارات في البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، تماشيًا مع التحول العالمي نحو الثورة الصناعية الرابعة التي قادت لاندماج مختلف التقنيات والإنترنت، والروبوتات الذكية، واستثمرتها في تحليل المشاعر وقراءة المواقف تجاه مختلف الأحداث، واستثمارها في التسويق الرقمي، تجاريًا، وسياسيًا.
إذن على المؤسسات الإعلامية العربية إدراك حتمية الاستجابة للتحولات الرقمية التي أوجدتها البيئة الاتصالية، وتبقى الإشكالية أن عملية التحويل هذه، ستفضي إلى إحداث تغيرات ملموسة في بيئة العمل الصحفي، سينعكس على طرق الحصول على المعلومات، وفي التفاعل مع الجمهور، وفي عملية تدفق المحتوى الخبري، وفي بنية وتنظيم غرف الأخبار، فالصحفي الغربي ألف هذه الآلة، وتقاسم معها العمل، ورسمت الحدود المهنية لكل منهما. ولذا على مؤسساتنا الإعلامية المبادرة لتبني هذا التحول، خصوصًا مع تبنيه من قبل صانع القرار في رؤية السعودية 2030، وإنشاء الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا).
ولا يخلو توظيف الذكاء الاصطناعي من عدد من التحديات، أبرزها؛ انتقال مسؤولية وأمانة وأخلاقيات العمل الصحفي إلى الروبوت، وهذا يتطلب مواثيق وسياسة إعلامية جديدة تتحمل فيها المؤسسات الإعلامية المخالفات القانونية الناتجة عن روبوتاتها، ومن ضمن التحديات قبول الصحفيين للوافد الجديد الذي يزاحمهم على مهنتهم، وكذلك توظيفها في غرف الصدى، وتزوير الفيديوهات عن طريق تقنية الخداع العميق، والتلاعب باتجاهات الجمهور من خلال نشر المحتوى بناءً على البصمة الرقمية للمتلقي، وما يتمخض عنه من ميلاد القبيلة الرقمية ذات التوجهات المصنوعة، دون وعي من المستخدم، والتي قد لا تعكس الرأي الحقيقي.
وأخيرًا ختمت محاضرتي المشار إليها أعلاه، بتساؤل عن العلاقة بين الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار وكوب القهوة، وقد أثار هذه التساؤل فضول من حضر، فكان الجواب، أن القهوة اليوم أصبحت بنكهة واحدة تقريبًا، نتيجة اعتمادها على الآلة، وفقدانها تميز اليد البشرية التي تختلف في مقاديرها من بيت لآخر، ومن بلد لبلد، وربما هذا هو المصير المنتظر لصناعة الأخبار في المرحلة الأولى على الأقل، سائلًا الله ألا تصل الآلة إلى القهوة السعودية التي لها طقوسها الخاصة لإعدادها مما ينعكس على نكهتها والتلذذ بها.
قلت لصاحبي:
على مؤسساتنا الإعلامية أن تُبادر إلى تبنى الذكاء الاصطناعي ولا تخشاه؛ فهو وسيلة لتسهيل العمل وتحسينه، وليس أداة تهديد.