بقلم : سمير الفيل
في المتن السردي لقصة “ضوء خافت” يطلق ماهر ، صديق الراوي هذا السؤال: ” لا أعرف لماذا يعيش البعض منتظرا الكوارث ؟ “، وهو سؤال مشروع ومن الممكن البحث عن إجابات مقنعة له ، غير إنني أود أن أشير إلى أن أغلب نصوص المجموعة وهي (14 نصا قصصيا ) تتسم بالتكثيف والإيجاز، وفيها يتردد هذا السؤال ، مغالبا حالة الصمت ، مدببا كحافة سكين ، فالقصص في أغلبها تطرح لنا مجموعة هائلة من الخيبات المتكررة وأوجه العجز والارتباك في عالم يسوده القبح والخذلان .
في قصة ” رقصة أخيرة ” يتشكل الحدث من غياب الزوجة عن البيت بعد أن ماتت غير إنها تظل حاضرة في المكان بشكل كلي، مما يدفع الزوج لإحضار الصورة داخل إطارها ليقربها منه ثم ليطبع قبلة حانية على الوجه البرئ.
مثل هذا الافتقاد يشعر البطل بعجزه وقلة حيلته أمام الموت ، وهو فعل نهائي ، لا يمكن مقاومته أو رفضه فالتعامل معه كحقيقة ثابتة أمر حتمي . وهو هنا يلجأ لتيار الذكريات حتى ينقذه جزئيا من حالة الضياع الكامل حتى لو جاء ذلك عبر أغنية : ” يقتحم صوت شادية صدر الرجل ووحدته ” يا حبيبي عد لي تاني ، خلي عيني تشوف مكاني ” ، ينقر ببطء على مجموعة من الصور ، يطالع ضحكتها الآسرة في رحلة أسوان ، وفستانها الأزرق القصر ، صورتها وهي تطهو ” البامية” حين التقطها فجأة ، صورة لطفلة جميلة كانت تشبهها في صغرها ، وأخرى على مركب وسط النيل ” ص8.
اختيار نهر اليل كمكان يشير إلى الحضور والتجدد فهو نقيض الموت باعتباره سكون وصمت لا نهائي. والبطل يسترجع مشهدا من فيلم ” تايتنيك” مع اختلاف الزمان والمكان فطاقة الحب متجددة ، يجيل النظر إلى الصالة التي ضمتهما سويا في ليلة دافئة، وفي ركن منها قبلته فاعترته رجفة وهو يطالع تقاسيم وجهها المرهق في مرضها الذي أكل قلبه.
ولكي يستكمل الصورة الرومانسية الهادئة يذهب إلى الدولاب فيخرج صندوق الرسائل وينتزع جوابه الأول لها، والورقة مكتوبة بخط الرقعة. إن مثل هذه التفصيلات الغرض منها استعادة الموقف استعادة كاملة وحين يصعد ببصره لساعة الحائط يتذكر الخامسة، موعد تناول الدواء وهو ينهضها برفق ليتمكن من إعطائها الحقنة. إذن فالفقد هنا أحد الوجوه المحتملة لمعنى ؛ فالزمن بثقله وقوته وضغوطه على النفس البشرية يعطينا صورة مجسدة للعجز، وحين يتناول البرواز الحزين فكأنه يبارز هذا الموت محاولا التغلب عليه، ومن الطبيعي أن تنتهي المحاولة بالفشل ؛ فالشارة السوداء توكد انهزامه ويداه المرتعشتان رد فعل طبيعي وتلقائي لمعنى التخلي، حيث لا يتوقف تيار الحياة الذي يسير بنفس قوته لأن الحياة لا تعرف غير الصيرورة.
تتكرر فكرة الغياب الجسدي في أكثر من قصة مع تنويع في النغمات مع البقاء على اللحن الواحد كما نجد في ” صعود” فالبطل ينزوي في ركن من الحجرة ، يخشى الرجل السبعيني أن يغادر البيت في هذا الطقس القارس خوفا على القطة التي يرعاها بعد رحيل زوجته. حين يذهب إلى المقهى تمر جنازة يقف لها الجميع مشيرين بالسبابة نحو السماء .
يعرف الأصدقاء أنه لا يسير في جنازات ولا يحب سيرة الموت ، وبسبب وحدته فإن الخيالات تحيط به لتنتشله من عزلته :” تحوم حول عينيه عشرات الكائنات الغريبة تراءى له أن البنات الغريبات عن عالمه اقتحمن شقته ، وأمسكن به ، وغرسن أدويتهن في جسده الذي انهكته العقاقير ، خشى من حساب زوجته حين تضبطه معهن” ص 24.
تلك الوجوه الملائكية لا تمنعه من الشعور المتزايد بالفقد يتساءل في نفسه: هل يطلب منهن إطعام القطة التائهة ؟ يلاحظ الجيران إن الرجل لم يخرج من شقته منذ ثلاثة أيام ، وحين يفتح الباب تحت ضغط طرقاتهم يشاهدون الرجل مستلقيا على مقعده وعلى طرف عباءته تموء القطة. من الواضح أن الموت قد حاصر الرجل فمات، ومعه قطته التي كانت لا تشعره بالوحدة أو الوحشة.
يبدو أن محمد بربر شديد الاهتمام بتتبع مثل هذه الحالات التي ربما لا يلتفت إليها أحد حتى أنه يخصص لها أكثر من نص بتشكيل جمالي مختلف.
يعالج الكاتب أفكارا أخرى مثل التدين الشكلي ، والاختفاء خلف قناع وهمي للفضيلة ، كما في قصة ” على مقهى جزر” ، فالشخصية الرئيسية تصل إلى مقهى، يطلب كوب ، يتخذ من زاوية مقابلة للباب الخلفي مجلسا ينظر أعلى تجاه شرفات المنازل ربما ليرضى هوايته القديمة في تأمل الملابس النسائية ؟!
وهو يمارس النقيض حين يكتب على شاشة هاتفه:” صلاة الفجر يا جماعة ” ومن بعدها وعبر تقنية ” الواتس أب ” يتحدث مع غادة الأربعينية المطلقة عن زوجته المتوفاة ووحدته ثم يرسل صورته مع سيارة ” أودي” وترسل صورتها مع قطتها ” مشمشة”.
ينتهي النص نهاية كاشفة لتفضح مثل هذه الممارسات الخائبة :” تأتي السابعة صباحا ، يستقل ” ميكروباس ” إلى منزله ، يجد زوجته في سبات عميق ، يسبها لأنها لم تحضر فطورا بعد . كان ردها صادما ” مكسح طلع يتفسح” ، أغلق هاتفه ، بعد أن كتب رسالته المعتادة ” جمعة مباركة” ، وراح يغط في نوم عميق”، ص6.
اكتفى الكاتب بلمحة أو لمحتين كي يشير إلى التناقض الصارخ بين الكلام وبين الفعل ، وبلا شك فهي حالة متكررة أستخدمها محمد بربر بمهارة وإن كانت مساحة السرد تتسع لإبراز تناقضات أخرى تكاد تكون شائعة في هذا الوسط الذي يتعامل مع الحياة بوجهين، دون أن يرف للفاعلين رمش؟!
من القضايا الشائكة التي يموج بها مجتمعنا المصري ما نراه من عقم للرجال أو النساء فتمضي الحياة متوترة حتى إن السيدة الجميلة في قصة ” شموع” تقف أمام المرآة الكبيرة في غرفتها ، تتحسس وجهها بأناملها التي لمحت تجاعيدها. يصفها القاص بشكل جميل حين يجسدها منزوية ، ومنهزمة:” كانت تشعر مساء هذا اليوم أنها شجرة وحيدة في فناء يهزها الريح، روحها معلقة في السماء ، تأملت صورتها الموضوعة في برواز خشبي تأبطته ، ونهضت لتستلقي على سريرها ” ً ص11 .
من سياق القص ندرك إنها تعيش مرارة الحرمان بسبب عدم انجابها لطفل ، تدخل الكنيسة تسند رأسها على حائط أعلاه صورة العذراء ، قبل أن تخرج قلما وورقة من حقيبتها لتكتب للرب إنها تطمع في طفل يبدد وحشة أيامها ثم نراها تخرج إلى الساحة الرحيبة لتستظل بشجرة قد انخفض غصنها. وفي الأدبيات الشعبية فإن الشجر الأخضر دلالة خصب ونماء لذلك تشعر المرأة برجفة تهزها ؛ فهي لم تخل من تشوف وترقب لتبديل الحال.
هاهو عجز من نوع آخر، ومن المألوف أن تعلق الرغبات سواء عند المسلمين أو المسيحيين عادة باللجوء للأولياء والقديسين فمثلما يزور المسلمون مسجد الحسين أو السيدة زينب فإن المسيحيون يفعلون نفس الشيء في الكنيسة بكتابة رغباتهم عبر قطع صغيرة من الورق يطوينها ، حيث تتضمن طلباتهم ، يدسونها في زوايا الجدران ، قرب الشموع وعلى الحواف المحيطة بصورة العذراء .
أحيانا يأتي المرض فصيب الأسرة جميعها بالارتباك وانعدام الطمأنينة ، والشعور باليأس رغم اليقين بأن الله قد يدبر أمرا ينهي به أحزاننا ، في قصة “جدران باردة ” يقودنا خيط السرد للذهاب إلى غرفة العناية المركزة بمستشفى القصر العيني ، ثمة سيدة في أواخر الأربعينيات تحمل كوب عصير، تمد يدها به لشاب في مقتبل العمر ، تترجاه كي يشربه لكنه يصرخ ويزداد هياجه.
هو طفلها الذي كبر وقد أصابته أمراض صعبة منها تليف الكبد والفشل الكلوي ، تستعيد معه مشاهد الطفولة، فهي تراه من نافذة الماضي يلعب بدراجته تتذكر مشاغباته الحلوة وانتظاره حواديت ما قبل النوم قبل عشرين عاما ، ورفضه حفظ جدول الضرب، ورغبته في أن يصبح ” ضابط طيران”.
هو الزمن الذي يسقط الأصحاء مرضى وربما تبدل الحال فالمشهد الأخير يصور الأم راقدة على سرير المرض، وأنامل الشاب تمرر برفق على خصلات شعرها.
يشعر الشاب أنه قد عامل أمه بجفاء، فوجب عليه الاعتذار ، إنه يميل على جسدها الواهن ليهمس لها بأسفه والدموع تسبقه.
مثل هذه الملامح التراجيدية نجدها في قصص متتابعة بالمجموعة وهي تعلن عما يعتري العالم من نقص فادح وعدم اكتمال وضعف قد يؤدي للموت الذي هو حالة من حالات الصيروة. يسرد الكاتب هذه الاحداث بنفس حزين فهو يؤمن أن الإنسان خلق في كبد وعليه ـ كما قال أمل دنقل أن ينقب في الجدار ـ ربما يحدث ثغرة يمر منها النور للقادمين.
في “جلسة دومينو” يأتي الرجل الأربعيني إلى المقهى، يجلس على مقعد قريب من الباب الخلفي ، وحين تجرى مباريات كرة القدم يختار مقعد في الصفوف الأمامية، وهو يلعب الدينامو، حين يفوز يتهلل وجهه ويصيح:” يا جعفر” .هو النداء الذي يبدد به القتامة حين يتهمه زملاء اللعب بالغش في اللعب يصرخ قائلا:” وحياة عيالي ما حصل”،وهي عبارة تحمل شيئا من الفكاهة فهو لم ينجب لكنه يعتبر أطفال الحي جميعهم عياله حيث يمنحهم العصير وقطع الحلوى . حين يعود للبيت تنصحه أمه بإرجاع زوجته لكنه يرفض لكونها عايرته مرة بعدم الإنجاب، ومن الحوار مع الأم نعرف أن العيب عندها، هو لم يخبرها بذلك الأمر رغم اتهامها له، وقد طلقها ،لا يكف عن الهمس لنفسه:” وحشتيني قوي يا جعفر” ص 54 ، . فجعفر هنا هو الطفل المستحيل، وهو ” السيم” الذي يلطف الجو ويبدد التجهم من بيتهما المشترك قبل وبعد الانفصال.
اهتم القاص بالتحولات المعرفية والقفزات التكنولوجية في دروب الحارة ومنها ظهور مقاهي ” الأنترنت “، وما يسفر عن ذلك من تداخل المشاعر وربما انتفاء للخصوصية، الأمر الذي يسجله في قصة ” ضحكات مكتومة ” ، وفيها يجلس الشاب في مقهى ” أنترنت”، تقتحم المكان فتاة ترتدي حجابا خمري اللون، تجلس على جهاز كمبيوتر في زاوية بعيدة عن الصخب ، من مكانه يبصر ما على الشاشة من قلوب حمراء ، يلمح في يدها خاتم الخطوبة ، ربما كان المتحدث خطيبها . سمع صوت هذا الخطيب المحتمل يصل إليه، كانت ترد بالكتابة ، بينما شاشات ” السايبر ” متلاصقة: ” طالعت ضحكتها المكتومة ، وإشاراتها بعض الشيء ، أخيرا تناولت الفتاة الميكرفون ، لا يمكن لأحد أن يسمع همسها ، كانت حركة الشفاه مدهشة ” ص 50.
تعيد الصورة داخل صندوق يحتل منتصف الشاشة وجه حبيبها، تقترب من الميكرفون ، تمنحه قبلة على الهواء، وهي تكتم ضحكتها الأنثوية الفاتنة.
تنتهي القصة حين ينقطع التيار الكهربائي فيعم الصمت المكان، يشعر الجميع بحالة ترقب يمنع صاحب “السايبر” الزبائن من المغادرة خوفا من عدم دفع الحساب، يأتي التيار الكهربائي ، يضج الأطفال فرحين بعودة النور ، أما هي فتحتضن خاتمها وتقبله.
يبدو أن النص يخلو من أحداث رئيسية لكن القاص حاول من خلاله رسم صورة واقعية لكيفية تدخل التقنيات في حياتنا، فصرنا مشدودين إلى ما تمارسه التكنولوجيا علينا من سيطرة، ويختتم المشهد الكلي بالفتاة مبتسمة وهي تهم بتشغيل الكاميرا من جديد. هل هو واقع يتشكل من جديد حلت فيه الأزرار محل الأشياء التي تصنع باليد أو الكلام المنطوق الذي تبدد وصارت الأجهزة تحتل جانبا ملموسا من عالم متشابك. هل كسبنا أم خسرنا ؟ ربما لكل عصر قوانينه وأحكامه؟!
ينقلنا القاص إلى زمن فائت حين يستحضر مشهدا من أيام الكتاتيب حيث الضبط والربط رغبة في تعلم القرآن الكريم، هو زمن يخاف فيه الطفل من عصا الشيخ أسعد ، التي يهوي بها على جسد من لا يحفظ الآيات ، يستحضر الطفل هذا العالم القاسي حيث يستخدم الشيخ عصاه والتي سميها ” زينب”، ينهال بها على أقدام المقصرين.
في الكتاتيب كان في عمر العاشرة ومعه ابن أخ الشيخ يشير بعصاه على رأس الراوي كي يسمّع سورة ” الممتحنة ” ، يطلب الطفل أن يذكره بأول آية وهو مطلب معقول. جذبه ابن الاخ من ذراعه لينال عقابه ،تجرأ الطفل وطلب من الشيخ أن يضربه على يديه، تنهال العصا على كف اليد حتى بدت كجمرة نار، حين ينتهي وقت الكتاب يطلب منه الشيخ شراء الغذاء من محل فول، يلاحظ الطفل عربات الخيول التي تنقل الاثاث من الورش إلى شارع عبدالرحمن ت كما يتطلع لأبراج الحمام ، كمعادل موضوعي للرغبة الأكيدة في التحرر ، ينزوي قليلا يفتح علبة الفول الممزوجة بالطحينة، يضع حفنة تراب كانتقام من الشيخ أسعد.
تنتهي القصة حين يسأله الشيخ عن سبب تأخره فيخبره بازدحام محل الفول، يطلب منه مشاركته تناول طعام لكنه يعتذر ويغادر المكان. كان رد الفعل مساويا للوجع الذي أصاب يدي ابن العاشرة . أتصور أن الطفل في مثل هذا السن الغض لا يمكنه أخذ قرار الانتقام بمثل هذه الجرأة. في الغالب يركن الأطفال للحلم هربا من الواقع الصارم كحد السيف. وما أتصوره أن شيوخ الكتاتيب قد اختفوا من حياتنا منذ زمن بعيد ، وما نسمعه من أحداث مشابهة منقولة شفاهية من الاجداد لأن الآباء أنفسهم قد أفلتوا من مصيدة العنف بالذهاب إلى المدرسة ” الميري “.
أحيانا يبدو الموت الفجائي غير مبرر البتة ، والسياق الذي تجري فيه الوقائع يدل على ذلك. في قصة ” أريكة ” تجري الأحداث في بيت هاديء حيث تعيش ” فاطمة ” مع زوجها صاحب ورشة النجارة ، بحارة البركة ، إحدى الاحياء الشهيرة بقلب دمياط القديمة .
تعود العدسة للمرة الأولى التي رآها فيها الشاب النجار فسعى للارتباط بها ، تنجب فاطمة بنتين وولدين، يتحول الأب إلى رجل جبار يرفض زيجة البنتين، وخشية من أن يفوتهما قطار الزواج تغضب الزوجة ، وتعود لبيت والدها ، تأخذ فاطمة معها البنتين وتعيش معيشة ضنكا، هو لم يطلقها ولكنها ظلت بعيدة عن بيت الزوجية سبع سنوات. تزوج الأولى ثم الثانية وحين يخلو البيت من الفتاتين تتوق للرجوع إلى بيتها ولم تفعل غير إنها تصدم حين تعلم أن زوجها قد ألقى بأقفاص العصافير في الشارع.
بعد فترة تعلم أنه قد لفظ أنفاسه الأخيرة ، لم تشارك في العزاء ولكنها بعد أيام تعود للبيت، تترقرق الدموع في عينيها، تلمس الجدران الصماء ، تشعر ببرودة الطلاء، تريح جسدها على أريكة بسيطة . في الصباح اتشحت الحارة بالسواد فقد ماتت وضمت الابنة الصغرى إلى صدرها صورة فاطمة.
هاهي الخيبات تتوالى من جديد ، قد يكون الهروب من العيشة المشتركة القاسية لها أوجاعها غير أن الجدران التي ذكرتها بالأيام السوداء أطبقت على صدرها، فماتت قهرا ربما تحت تأثير الشعور بالقهر.
كأنما المرأة تعاقب نفسها لأنها لم تقم بثورتها والزوج حي ، لم ترغب في أن تحمل الفتاتين التأثير السلبي والغاضب لنجار الموبيليا الذي رمى بالعصافير في الشارع وبقى في بيته دون ان يبدي رغبة في عودة الزوجة. وهناك سؤال آخر يدور حول الابنين الذين ظلا مع الأب ، لم يشر الكاتب لأخبارهما ، فهل كانت حياتهما معه منسجمة أم أنهما تعرضا لقسوة مماثلة.
يذهب بنا محمد بربر إلى منطقة مغايرة تماما ، ليست مبتوتة الصلة بالتحولات المجتمعية لكنها ترمي بظلال الحكي على وقائع سياسية حفرت لها مجرى في حقبة ” الرئيس السادات ” وهنا نتعرف على مناطق أخرى للوجع الإنساني ، فالمدينة هادئة تماما ، ومئات البشر يجلسون على الكورنيش ، على بعد أمتار من الكورنيش تقع حارة ” الوهدان “، يرغب ماهر في أن يشاركه صديقه مشاكله فهو يشعر بالقهر حتى أنه يتساءل :” هل عبرت الشمس إلى هنا يوما ؟ ” ص 35 ، والإجابة يمكن العثور عليها من رصد وقائع الذهاب إلى المعلم ” حاتم” تاجر الحشيش الذي يلتف حوله صبيانه فيقومون ببيع ” الصنف ” للزبائن. يحكي دراويشه عن زيجاته السنوية حتى إنه يعقد مرتين في العام ، ويبقي على ” أم العيال”. يتسقط القاص أخبار المعلم فقد سمع بمقتل شقيقه أثناء حبسه قبيل أحداث 25 يناير، وقتها ظل مضربا عن الطعام أربعة أيام.
يسرب لنا الراوي طبائع المعلم حاتم فهو يرفض تناول طعام زملائه المحبوسين على ذمة قضايا الاتجار في المواد المخدرة، باستثناء الحشيش الذي يؤكد على أن فلوسها حلال” ـ وهو بالمناسبة منطق فاسد غير أن تجار الصنف يعتنقونه ـ يرصد الراوي عبر تيار الذكريات خروج المعلم من السجن ، وإطلاق الأعيرة النارية فرحا بعودته، ثم يرصد وجود صورة ” السادات” بوشاحه الاخضر ثم يهتم بإبراز جانب الرشاوي فيد المعلم تمتد مطبقة للمخبر فيفرح بالعطايا. يحصل ماهر على قطع الحشيش المطلوبة والتي تكفي سهرتين ويعود إلى الشارع الطويل الذي يسير فيه صديقه وهو يلاحقه ناحية الضوء الخافت. كان من الأكثر انطباقا على الحالة مرورهم بعتمة أو ظلام.
هذا النص يقدمه الكاتب بحيادية بالغة ، ويترك لنا التعليق النهائي صحيح أن المتاجرة في الحشيش أمر مؤثم قانونا، ولكن هناك من يحلله فيبقى سوسة تنخر في كيان المجتمع بالفقر والمرض .
كما ألمحنا في مقدمة المقال فإن حالات العجز الفردية قائمة، ناهيك عن وقائع التردي المجتمعي كما في القصة الأخيرة ، وتتردد ثيمة الوحدة ، والمرض ، والغياب، وقهر المرأة، وكلها عناصر تجعل اقترابنا من النور امر مستبعدا أما الظلام فهو يشمل أبطال النصوص القصصية ، ربما لا نلمح على امتداد مشوار السير في شوارع الحارة والأسواق وقرب الكورنيش وبجوار ورش الاثاث سوى ” ضوء خافت” نعلق عليه بعض الآمال التي يمكن أن تنتعش بكثير من التصميم والوعي وقوة الإرادة، تخطيا للعجز الذي يشمل النفوس الحائرة، والأجساد الموجوعة، والأرواح التي ترنو للخلاص من قود الواقع المرير.